ووصف بعض البلغاء رجلًا فقال: إنّه لبسط الكفّ، رحب الصدر، وطىء الأكناف، سهل الأخلاق، كريم الطباع، ضاحك السنّ، طلق الوجه، سحاب ماطر، وبحر زاخر، يستقبلك بحسن بشر، ويستدبرك بكرم غيب، عبد لضيفه غير ملاحظ لأكيله، ريّان من العقل، ظمآن من الجهل، راجح الحلم، ثاقب الرأي، كاس من كلّ مكرمة، عار من كلّ ملامة، إن سُئِل بذل، وإن قال فعل.
ومدح أعرابي رجلًا فقال: ذاك والله صريح النسب، مستحكم الأدب، من أيّ أقطاره أتيته تلقاه بكرم فعال وحسن مقال.
وذكر أعرابي قومًا فقال: هم أقلّ الناس ذنبًا إلى أعدائهم، وأكثر جرمًا إلى أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على المنكر.
وذمّ آخر رجلًا فقال: هو غني من اللؤم، فقير من الكرم، موته حياة وحياته موت.
وذمّ آخر رجلًا فقال: هو أكثر ذنوبًا من الدهر.
وذُكِرَ عند أعرابي رجل مريض فقال: ذاك إلى من يداوي عقله من الجهل أحوج منه إلى من يداوي جسمه من المرض.
وقال آخر: فلان غناه فقر، ومطبخه قفر، يملأ بطنه والجار جائع، ويحفظ ماله والعرض ضايع.
قوله: ومطبخه قفر نظيره قول الشريف الرضي:
بيوتهم سود الذرى ولنارهم ... مواقد بيض ما بهنّ رماد
وذكر أعرابي قومًا فقال: ألقوا من الصلاة الأذان مخافة أن تسمعه الأذان فتدلّ عليهم الضيفان.
وحدّث محمّد بن سلام قال: تكلّم الخطباء عند المهدي فأطنبوا في وصفه ومدحه، فقام شبيب المنقري فقال لأميرالمؤمنين: أعزّه الله أشباه فمنها القمر الباهر ومنها الفرات الزاخر ومنها الغيث الباكر ومنها الأسد الخادر؛ فأمّا القمر الباهر فأشبه منه حسنه وبهائه، وأمّا الفرات الزاخر فأشبه منه جوده وسخائه، وأمّا الغيث الباكر فأشبه منه طيبه وحبائه، وأمّا الأسد الخادر فأشبه منه شجاعته ومضائه. فقال المهدي: لا حاجة بنا بعد هذا إلى كلام.
ومثل هذا الكلام البليغ ما حكاه أبو محكم قال: اجتمع الشعراء على باب المعتصم، فبعث إليهم محمّد بن عبد الملك الزيّات فقال لهم: إنّ أميرالمؤمنين يقول لكم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول النميري في الرشيد:
خليفة الله إنّ الجود أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع
من لم يكن ببني العبّاس معتصمًا ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن أخلف القطر لم تخلف مخائله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتّسع
فليدخل وإلاّ فلينصرف، فقام محمّد بن وهيب فقال: فينا من يقول مثله، قال: وأيّ شيء قلت؟ فقال:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
فالشمس تحكيه في الإشراق طالعة ... إذا تقطّع عن إداركها النظر
والبدر يحكيه في الظلماء منبلحًا ... إذا استنارت لياليه به الغرر
يحكي أفاعيله في كلّ نائبة ... الغيث والليث والصمصامة الذكر
فالغيث يحكي ندى كفّيه منهمرًا ... إذا استهلّ بصوب الديمة المطر
وربّما صال أحيانًا على حمق ... شبيه صولته الضرغامة الهصر
والهند وانى يحكي من عزائمه ... صريمة الرأي منه النقض والمرر
وكلّها مشبه شيئًا على حدّة ... وقد تخالف فيها الفعل والصور
وأنت جامع ما فيهنّ من حسن ... فقد تكامل فيك النفع والضرر
فالخلق جسم له رأس مدبّرة ... وأنت جار حتاه السمع والبصر
فأمر بإدخاله وأحسن جائزته.
ولا بأس بذكر أبيات من قصيدة النميري في الرشيد: قال السيّد المرتضى: روي أنّ أبا عصمة الشعبي لمّا أوقع بأهل ديار ربيعة، أوفدت ربيعة وفدًا إلى الرشيد فيهم منصور النميري، فلمّا صاروا بباب الرشيد أمرهم باختيار من يدخل منهم عليه، فاختاروا عددًا بعد عدد إلى أن اختاروا رجلين النميري أحدهما ليدخلا ويسألا حوائجهما، وكا النميري مؤدّبًا لم يسمع منه شعر قط قبل ذلك ولا عرف به، فلمّا مثّل هو وصاحبه بين يدي الرشيد، قال لهما: قولا ما تريدان، فاندفع النميري فأنشده: "ما تنقضي حسرة منّي ولا جزع"، فقال له الرشيد: قل حاجتك وعد عن هذا، فقال: "إذا ذكرت شبابًا ليس يرتجع"، وأنشده القصيدة حتّى انتهى إلى قوله:
ركب من النمر عاذوا بابن عمّهم ... من هاشم إذا لحّ الأزلم الجذع
متوا إليك بقربى منك تعرفهم ... لهم بها في سنام المجد مطّلع
1 / 18