فهي في اللطف أوّلًا وأخيرًا ... شرع تفضل العرار شميما
فكأنّ القديم كان حديثًا ... وكأنّ الحديث كان قديما
قال علي ﵇: ربّ عزيز أذلّه خرقه، وذليل أعزّه خلقه.
وقال ﵇: من لم تصلح خلائقه لم ينفع الناس تأديبه.
وكان يقال: ألق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره.
ووصف أعرابي رجلًا بحسن البشر فقال: لا تراه الدهر إلاّ كأنّه لا غنى به عنك فإذا أذنبت غفر وكأنّه المذنب، وإن أحسن اعتذر وكأنّه المسيء.
وقال النبي ﵌: إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الأخلاق.
أقول: وحسبك مدحًا لحسن الخلق قوله تعالى لنبيّه: (إنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم) .
وقال النبي ﵌: مكارم الأخلاق عشرة تكون في الرجل ولا تكون في ابنه، وتكون في الإبن ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيّده. قيل: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصدق البأس، وإعطاء السائل، والمكافات بالصنايع، وصلة الرحم، والتذمّم للجار والصاحب، والحلم في القدرة، والمواساة في الشدّة، وقرى الضيف، ورأسهنّ الحياء.
وقال عصام بن المصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي بن أبي طالب ﵉ فأعجبني سمته وروائه فأثار منّي الحسد ما كان يجنّه صدري من البغض لأبيه، فقلت له: أنت ابن علي بن أبي طالب؟ فقال: نعم، فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إليّ نظرة عاطف رؤف، ثمّ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ، وَإمَّا يَنْزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللهِ إنَّهُ سَميعٌ عليم، إنَّ الَّذينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فإذا هُمْ مُبْصِرُون) ثمّ قال لي: خفّض عليك، أستغفر الله لي ولك، إنّك لو استعنتنا أعنّاك، ولو استرفدتنا رفدناك، ولو استرشدتنا أرشدناك. قال عصام: فتوسّم في الندم على ما فرط منّي، فقال: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْم يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين)، أمن أهل الشام أنت؟ قلت: نعم، فقال: شنشنة أعرفها من أخزم، حيّاك الله وبيّاك، انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجد عندنا أفضل ظنّك إنشاء الله. قال عصام: فضاقت عَلَيّ الأرض بما رحبت ووددت لو ساخت بي ثمّ تسلّلت منه لواذًا وما على وجه الأرض أحد أحبّ إليّ منه ومن أبيه.
أقول: أمّا قوله: شنشنة أعرفها من أخزم فهو مثل قائله أبو أخزم الطائي جدّ حاتم الطائي أو جدّ جدّه على ما قيل، ويقال: إنّ ابنه أخزم مات وترك بنين فوثبوا على جدّهم فأدموه، فقال:
إنّ بَنِيَّ رمّلوني بالدم ... من يلق آساد الرجل يكلّم
ومن يكن ذا أود يقوم ... شنشنة أعرفها من أخزم
والشنشنة السجيّة والطبيعة. وفي بعض النسخ: ومن يكن درء به يقوم، والدرء الميل والإعوجاج في القنات.
وعلى ذكر عقوق الأولاد: حدّث المدائني قال: كان جرير بن عطيّة الخطفي الشاعر المشهور من أعقّ الناس بأبيه، وكان ابنه بلالًا أعقّ الناس به، فراجع جرير بلالًا في الكلام فقال له بلال: الكاذب منّي ومنك من ناك أُمّه، فأقبلت عليه أُمّه وقالت: يا عدوّ الله تقول هذا لأبيك؟! فقال لها جرير: دعيه فوالله لكأنّي أسمعها وأنا أقولها لأبي.
ونظير ذلك ما حكي عن يونس بن عبد الله الخيّاط أنّه مرّ برجل وهو يعصر حلق أبيه وكان عاقًّا به، فقال له: ويحك أتفعل هذا بأبيك، وخلّصه من يده، ثمّ أقبل على الأب يعزّيه ويسكّن منه، فقال له الأب: يا أخي لا تلمه واعلم أنّه ابني حقًّا، والله لقد خنقت أبي في هذا الموضع الذي خنقني فيه، فانصرف الرجل وهو يضحك.
وما أحسن قول أُم ثواب في ابن لها وقد عقّها:
ربّيته وهو مثل الفرخ أطعمه ... أم الطعام ترى في جلده الزغبا
حتّى إذا آض كالفحال شذّ به ... أباره ونفى عن متنه الكربا
أمسى يخرق أثوابي يؤدّبني ... أبعد شيبي يبغي عندي الأدبا
قالت له عرسه يومًا لتسمعني ... مهلًا فإنّ لنا في أُمّنا إربا
ولو رأتني في نار مسعرةً ... ثمّ استطاعت لألقت فوقها حطبا
1 / 12