[خِطْبَة الْكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ــ
[العناية]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا فِي الْبِدَايَةِ لِمَعْرِفَةِ الْهِدَايَةِ، وَرَعَانَا بِعَيْنِ الْعِنَايَةِ فِي النِّهَايَةِ عَنْ الْجَهْلِ وَالْغَوَايَةِ، وَجَعَلْنَا مِمَّنْ آمَنَ بِمَا أَنْزَلَ وَاتَّبَعَ الرُّسُلَ وَوُفِّقَ لِلدِّرَايَةِ، وَخَصَّنَا بِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأُمَمِ بِفَضْلٍ مِنْهُ وَكَمَالِ الرِّعَايَةِ. أَحْمَدُهُ عَلَى إفَاضَةِ حُكْمِهِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى سَوَابِغِ نِعَمِهِ، وَأُصَلِّي عَلَى مَنْ اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِلرِّسَالَةِ، فَكَانَ خَازِنًا عَلَى وَحْيِهِ حَامِيًا أَمِينًا، وَحَبَاهُ بِمَعْرِفَةِ أُمِّ الْكِتَابِ مَعْدِنِ الْأَنْوَارِ وَالْأَسْرَارِ فَكَانَ إمَامًا حَاوِيًا مُبِينًا، مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ إلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ بِالْكِتَابِ الْعَرَبِيِّ الْمُعْجِزِ الْمُنَوِّرِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْقَائِمِينَ بِنُصْرَةِ الدِّينِ الْقَوِيمِ الْأَزْهَرِ، وَالصَّفْوَةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أُمَّتِهِ الْوَارِثِينَ لِعِلْمِهِ الْعَزِيزِ الْأَنْوَرِ.
يَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ الْحَفِيِّ، مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَنَفِيُّ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَعَامَلَهُمْ بِلُطْفِهِ الْخَفِيِّ: [أَمَّا بَعْدُ] فَإِنَّ كِتَابَ الْهِدَايَةِ لِمَئِنَّةِ الْهِدَايَةِ، لِاحْتِوَائِهِ عَلَى أُصُولِ الدِّرَايَةِ وَانْطِوَائِهِ عَلَى مُتُونِ الرِّوَايَةِ،
1 / 5
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْلَى مَعَالِمَ الْعِلْمِ وَأَعْلَامَهُ،
ــ
[العناية]
خَلَصَتْ مَعَادِنُ أَلْفَاظِهِ مِنْ خُبْثِ الْإِسْهَابِ، وَخَلَتْ نَقُودُ مَعَانِيهِ عَنْ زَيْفِ الْإِيجَازِ وَبَهْرَجِ الْإِطْنَابِ، فَبَرَزَ بُرُوزَ الْإِبْرِيزِ مُرَكَّبًا مِنْ مَعْنًى وَجِيزٍ، تَمَشَّتْ فِي الْمَفَاصِلِ عُذُوبَتُهُ، وَفِي الْأَفْكَارِ رِقَّتُهُ، وَفِي الْعُقُولِ حِدَّتُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا خَفِيَتْ جَوَاهِرُهُ فِي مَعَادِنِهَا، وَاسْتَتَرَتْ لَطَائِفُهُ فِي مَكَامِنِهَا.
فَلِذَلِكَ تَصَدَّى الشَّيْخُ الْإِمَامُ وَالْقَرْمُ الْهُمَامُ، جَامِعُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُقَرِّرُ مَبَانِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، حُسَامُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ السِّغْنَاقِيُّ سَقَى اللَّهُ ثَرَاهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ؛ لِإِبْرَازِ ذَلِكَ وَالتَّنْقِيرِ عَمَّا هُنَالِكَ، فَشَرَحَهُ شَرْحًا وَافِيًا وَبَيَّنَ مَا أَشْكَلَ مِنْهُ بَيَانًا شَافِيًا، وَسَمَّاهُ النِّهَايَةَ لِوُقُوعِهِ فِي نِهَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي التَّدْقِيقِ، لَكِنْ وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ إطْنَابٍ، لَا بِحَيْثُ أَنْ يُهْجَرَ لِأَجْلِهِ الْكِتَابُ، وَلَكِنْ يَعْسُرُ اسْتِحْضَارُهُ وَقْتَ إلْقَاءِ الدَّرْسِ عَلَى الطُّلَّابِ، وَكَانُوا يَقْتَرِحُونَ عِنْدَ الْمُذَاكَرَةِ أَنْ أَخْتَصِرَهُ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَلُّ أَلْفَاظِ الْهِدَايَةِ وَبَيَانُ مَبَانِيهِ، وَيَحْصُلُ بِهِ تَطْبِيقُ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَقْرِيرِ أَحْكَامِهِ وَمَعَانِيهِ.
وَكُنْت أَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ غَايَةَ الِامْتِنَاعِ وَأُسَوِّفُهُمْ مِنْ الْأَعْوَامِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، وَكَانَ امْتِنَاعِي يَزِيدُهُمْ غَرَامًا وَتَسْوِيفِي يُفِيدُهُمْ هُيَامًا، فَلَمْ نَزَلْ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ حَتَّى أَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ بِالْحِجَاجِ، فَاسْتَخَرْت اللَّهَ تَعَالَى وَأَقْدَمْت عَلَى هَذَا الْخَطْبِ الْخَطِيرِ، وَتَضَرَّعْت بِضَرَاعَةِ الطَّلَبِ إلَى الْعَالِمِ الْخَبِيرِ فِي اسْتِنْزَالِ كِلَاءَتِهِ عَنْ الزَّلَلِ فِي التَّحْرِيرِ وَالتَّقْرِيرِ، وَجَمَعْت مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوحِ مَا ظَنَنْت أَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَكُونُ الِاعْتِمَادُ وَقْتَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَأَشَرْت إلَى مَا يَتِمُّ بِهِ مُقَدَّمَاتُ الدَّلِيلِ وَتَرْتِيبُهُ، وَلَمْ آلُ جَهْدًا فِي تَنْقِيحِهِ وَتَهْذِيبِهِ، وَأَوْرَدْت مَبَاحِثَ لَمْ أَظْفَرْ عَلَيْهَا فِي كِتَابٍ، وَلَمْ تَصِلْ إلَيَّ عَنْ أَحَدٍ لَا بِرِسَالَةٍ وَلَا خِطَابٍ، بَلْ كَانَ خَاطِرِي أَبَا عُذْرِهِ وَمُقْتَضِبَ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ. وَسَمَّيْته (الْعِنَايَةَ) لِحُصُولِهِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَالْعِنَايَةِ، وَسَأَلْت اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَ بِهِ كَمَا نَفَعَ بِأَصْلِهِ، إنَّهُ أَكْرَمُ مَسْئُولٍ وَأَعَزُّ مَأْمُولٍ.
ثُمَّ إنِّي أَرْوِي كِتَابَ الْهِدَايَةِ عَنْ شَيْخِي الْعَلَّامَةِ إمَامِ الْهُدَى مَعْدِنِ التَّقِيِّ، فَرِيدِ عَصْرِهِ وَوَحِيدِ دَهْرِهِ، قُدْوَةِ الْعُلَمَاءِ عُمْدَةِ الْفُضَلَاءِ، قِوَامِ الْحَقِّ وَالْمِلَّةِ وَالدِّينِ الْكَاكِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ، وَهُوَ يَرْوِيهِ عَنْ شَيْخَيْهِ الْعَلَّامَتَيْنِ الْإِمَامَيْنِ الْهُمَامَيْنِ الْمُجْتَهِدَيْنِ مَوْلَانَا عَلَاءِ الدِّينِ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَاحِبِ الْكَشْفِ وَمَوْلَانَا حُسَامِ الدِّينِ حُسَيْنٍ السِّغْنَاقِيِّ صَاحِبِ النِّهَايَةِ، بَرَّدَ اللَّهُ مَضْجَعَهُمَا وَنَوَّرَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ مَهْجَعَهُمَا.
وَهُمَا يَرْوِيَانِهِ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ السَّالِكِ النَّاسِكِ الْبَارِعِ الْوَرِعِ التَّقِيِّ النَّقِيِّ أُسْتَاذِ الْعُلَمَاءِ مَوْلَانَا حَافِظِ الدِّينِ الْكَبِيرِ، وَعَنْ قُطْبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَقُدْوَةِ الْمُحَقِّقِينَ وَأُسْوَةِ الْمُتَّقِينَ مَوْلَانَا فَخْرِ الدِّينِ الْمَايَمُرْغِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَهُمَا يَرْوِيَانِهِ عَنْ أُسْتَاذِ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا مُظْهِرِ كَلِمَةِ اللَّهِ الْعُلْيَا شَمْسِ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السِّتَارِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَرْدَرِيِّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَهُوَ يَرْوِيهِ عَنْ شَيْخِهِ شَيْخِ شُيُوخِ الْإِسْلَامِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَى الْأَنَامِ، مُرْشِدِ عُلَمَاءِ الدَّهْرِ مَا تَكَرَّرَتْ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، وَالْمَخْصُوصِ بِالْعِنَايَةِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ وَلِوَالِدَيْهِمْ وَلَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَأَثَابَنَا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ وَخَتَمَ لَنَا بِخَيْرٍ فِي عَافِيَةٍ أَجْمَعِينَ، إنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ ﵀ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْلَى مَعَالِمَ الْعِلْمِ وَأَعْلَامَهُ) اللَّامُ فِي الْحَمْدِ لِلْجِنْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
1 / 6
وَأَظْهَرَ شَعَائِرَ الشَّرْعِ وَأَحْكَامَهُ،
ــ
[العناية]
لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَجَعْلُهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلِلْعَهْدِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ خَالِقُونَ لِأَفْعَالِهِمْ فَيَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْحَمْدِ مَا يُقَابِلُهَا فَلَا يَكُونُ الِاسْتِغْرَاقُ صَحِيحًا لَيْسَ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ جَعَلَهُ لِلْعَهْدِ: أَعْنِي الذِّهْنِيَّ، وَصَاحِبُ الْكَشَّافِ جَعَلَهُ لِلْجِنْسِ. وَالْحَمْدُ هُوَ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ عَلَى جِهَةِ التَّفْضِيلِ، فَقَوْلُنَا هُوَ الْوَصْفُ كَالْجِنْسِ، وَقَوْلُنَا بِالْجَمِيلِ أَخْرَجَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُنَا عَلَى جِهَةِ التَّفْضِيلِ أَخْرَجَ مَا يَكُونُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّهَكُّمِ، وَالْكَلَامُ فِي اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ كَوْنِهِ مَنْقُولًا أَوْ مُرْتَجَلًا مُشْتَقًّا أَوْ غَيْرِهِ عَلَمًا أَوْ غَيْرِهِ لَيْسَ مِمَّا يَهُمُّنَا
1 / 7
وَبَعَثَ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. إلَى سُبُلِ الْحَقِّ هَادِينَ، وَأَخْلَفَهُمْ عُلَمَاءَ إلَى سُنَنِ سُنَنِهِمْ دَاعِينَ، يَسْلُكُونَ فِيمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ مَسْلَكَ الِاجْتِهَادِ،
ــ
[العناية]
الْآنَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ أَوْ جَمِيعُ أَفْرَادِ ذَلِكَ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى يُفِيدُ كَوْنَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُودًا صَدَرَ الْحَمْدُ مِنْ حَامِدٍ أَوْ لَا. وَالْمَعَالِمُ جَمْعُ مَعْلَمٍ وَأَرَادَ بِهِ أُصُولَ الشَّرْعِ لِكَوْنِهَا مَدَارَك الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْأَعْلَامُ عُلَمَاؤُهُ، وَالشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ، قِيلَ وَالْمُرَادُ بِهَا مَا يُؤَدَّى مِنْ الْعِبَادَاتِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِهَارِ كَالْأَذَانِ وَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ وَالْأُضْحِيَّةِ، وَالشَّرْعُ بِمَعْنَى الْمَشْرُوعِ أَوْ بِمَعْنَى الشَّارِعِ، وَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ الْمُظْهَرِ مَقَامَ الضَّمِيرِ أَوْ بِمَعْنَى الشَّرِيعَةِ، يُقَالُ شَرْعُ مُحَمَّدٍ ﷺ كَمَا يُقَالُ شَرِيعَةُ مُحَمَّدٍ.
وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ هِيَ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ وَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ وَغَيْرُهَا، وَحَمْلُ الشَّعَائِرِ عَلَى الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ وَالْعَلَامَاتِ أَنْسَبُ لِلْأَحْكَامِ، وَيَكُونُ إشَارَةً إلَى بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ، فَإِنَّ كِتَابَهُ هَذَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَحْكَامِ مُبَيَّنَةٌ بِذَلِكَ.
قَالَ (وَبَعَثَ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءً - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) قِيلَ: الرَّسُولُ هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي مَعَهُ كِتَابٌ مُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَالنَّبِيُّ هُوَ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ كِتَابٌ كَيُوشَعَ ﵇ وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَقَوْلُهُ (هَادِينَ) أَيْ مُبَيِّنِينَ طُرُقَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ ﵀ بِأَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ مَعَ كَوْنِهِ الْأَصْلَ الْمُحْتَاجَ إلَى ذِكْرِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ مُحَمَّدٌ ﵊ لَكِنْ جَمَعَهُ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِجْلَالًا لِقَدْرِهِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ.
وَقَوْلُهُ (دَاعِينَ) كَقَوْلِهِ هَادِينَ فِي كَوْنِهِ صِفَةً مَادِحَةً، وَقَوْلُهُ (يَسْلُكُونَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِعُلَمَاء وَأَنْ يَكُونَ حَالًا لِاتِّصَافِهِ أَوَّلًا بِدَاعِينَ، وَالنَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ جَازَ أَنْ يَقَعَ عَنْهَا الْحَالُ مُتَأَخِّرًا، وَأَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: كَيْفَ دَعَوْتُهُمْ إلَى سُنَنِ سُنَنِهِمْ؟ فَقَالَ: يَسْلُكُونَ فِيمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ: أَيْ لَمْ يُوجَدْ عَنْهُمْ مَأْثُورًا: أَيْ مَرْوِيًّا مَسْلَكَ الِاجْتِهَادِ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْمَأْثُورِ مِنْهُمْ إذَا وَجَدُوهُ، وَأَنَّهُمْ مُتَّبِعُوهُمْ عَلَى الدَّوَامِ لِأَنَّهُمْ إنْ وَجَدُوا مَأْثُورًا عَنْهُمْ عَمِلُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُمْ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا تَبِعُوهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ وَإِذَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِمْ، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ وَهُوَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ
1 / 8
مُسْتَرْشِدِينَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ وَلِيُّ الْإِرْشَادِ، وَخَصَّ أَوَائِلَ الْمُسْتَنْبِطِينَ بِالتَّوْفِيقِ حَتَّى وَضَعُوا مَسَائِلَ مِنْ كُلِّ جَلِيٍّ وَدَقِيقٍ غَيْرَ أَنَّ الْحَوَادِثَ مُتَعَاقِبَةُ الْوُقُوعِ، وَالنَّوَازِلُ يَضِيقُ عَنْهَا نِطَاقُ الْمَوْضُوعِ، وَاقْتِنَاصُ الشَّوَارِدِ بِالِاقْتِبَاسِ مِنْ الْمَوَارِدِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَمْثَالِ مِنْ صَنْعَةِ الرِّجَالِ، وَبِالْوُقُوفِ عَلَى الْمَآخِذِ يُعَضُّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ.
وَقَدْ جَرَى عَلَى الْوَعْدِ فِي مَبْدَإِ بِدَايَةِ الْمُبْتَدِي أَنْ أَشْرَحَهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى شَرْحًا أَرْسُمُهُ بِكِفَايَةِ الْمُنْتَهِي، فَشَرَعْت فِيهِ
ــ
[العناية]
الظَّنِّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَقَدْ قَرَّرْنَا شُرُوطَهُ وَحُكْمَهُ فِي التَّقْرِيرِ.
وَقَوْلُهُ (مُسْتَرْشِدِينَ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَسْلُكُونَ. وَأَرَادَ بِأَوَائِلِ الْمُسْتَنْبِطِينَ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ ﵏ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ حَتَّى وَضَعُوا مَسَائِلَ مِنْ كُلِّ جَلِيٍّ وَدَقِيقٍ، فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ تَوَلَّوْا تَمْهِيدًا قَوَاعِدَ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَبْيِينَهَا، وَالْمُرَادُ بِالْجَلِيِّ الْمَسَائِلُ الْقِيَاسِيَّةُ لِظُهُورِ إدْرَاكِهَا غَالِبًا، وَبِالدَّقِيقِ الْمَسَائِلُ الِاسْتِحْسَانِيّة لِخَفَاءِ إدْرَاكِهَا، قِيلَ مَا وَضَعَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ هُوَ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَةُ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَنَيِّفُ مَسْأَلَةٍ.
وَقَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ الْحَوَادِثَ) مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى وَضَعُوا، وَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا كَانَ أَوَائِلُ الْمُسْتَنْبِطِينَ وَضَعُوا مَسَائِلَ مِنْ كُلِّ جَلِيٍّ وَدَقِيقٍ فَأَيُّ حَاجَةٍ تَدْعُو إلَى الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّصْنِيفِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ وَإِنْ وَضَعُوا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْحَوَادِثَ (مُتَعَاقِبَةُ الْوُقُوعِ، وَالنَّوَازِلَ) أَيْ الْوَاقِعَاتِ (يَضِيقُ عَنْهَا نِطَاقُ الْمَوْضُوعِ) وَالنِّطَاقُ هُوَ الْمِنْطَقَةُ اُسْتُعِيرَ هُنَا لِلْأَجْوِبَةِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ السَّلَفِ فِي الْفَتَاوَى، وَالِاقْتِنَاصُ الِاصْطِيَادُ، وَالشَّوَارِدُ جَمْعُ شَارِدَةٍ وَهِيَ الْآبِدَةُ، الْقَبَسُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ، يُقَالُ اقْتَبَسْت مِنْهُ نَارًا وَاقْتَبَسْت مِنْهُ عِلْمًا: أَيْ اسْتَفَدْته، وَالْمَوَارِدُ جَمْعُ الْمَوْرِدِ، اسْتَعَارَ الشَّوَارِدَ لِلْأَحْكَامِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ الْأُصُولِ بِالِاسْتِنْبَاطِ بِجَامِعِ عُسْرِ الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ، وَاسْتَعَارَ الْمَوَارِدَ لِلْأُصُولِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَحَلُّ الْوُصُولِ: يَعْنِي كَمَا أَنَّ اصْطِيَادَ الصُّيُودِ النَّافِرَةِ مِنْ مَوَارِدِهَا وَمَنَاهِلِهَا فَكَذَا اصْطِيَادُ الْحَوَادِثِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ الْأُصُولِ: أَيْ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَالْإِجْمَاعِ بِالِاعْتِبَارِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لَيْسَ صَنْعَةَ كُلِّ أَحَدٍ بَلْ مِنْ صَنْعَةِ الرِّجَالِ الْكَامِلِينَ فِي الرُّجُولِيَّةِ. وَقَوْلُهُ (بِالْوُقُوفِ عَلَى الْمَآخِذِ) خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَمْثَالِ.
وَقَوْلُهُ (يَعَضُّ عَلَيْهَا) حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ: وَقِيَاسُ الْأَحْكَامِ عَلَى نَظَائِرِهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ صَنْعَةِ الْكُمَّلِ مِنْ الرِّجَالِ وَهُوَ بِالْوُقُوفِ عَلَى الْمَآخِذِ حَالَ كَوْنِهَا يَعَضُّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ: يَعْنِي إذَا كَانَ الْوُقُوفُ بِإِحْكَامٍ وَإِتْقَانٍ، ثُمَّ قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْحَوَادِثَ إلَخْ اعْتِذَارٌ عَنْ الشُّرُوعِ فِي التَّصْنِيفِ.
وَقَوْلُهُ (وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَمْثَالِ) إنْ كَانَ ذِكْرُهُ هَضْمًا لِنَفْسِهِ عَنْ مَرْتَبَةِ التَّصْنِيفِ كَانَ مَعْنَاهُ وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَمْثَالِ مِنْ صَنْعَةِ الرِّجَالِ وَبِالْوُقُوفِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ عَلَى الْمَآخِذِ وَلَسْت مِنْهُمْ وَلَا حَصَلَ لِي وَلَكِنْ كَانَ قَدْ جَرَى عَلَيَّ الْوَعْدُ فِي مَبْدَإِ بِدَايَةِ الْمُبْتَدِي أَنْ أَشْرَحَهَا شَرْحًا أَرْسُمُهُ بِكِفَايَةِ الْمُنْتَهَى فَشَرَعْت فِيهِ حَالَ كَوْنِ الْوَعْدِ يَسُوغُ بَعْضَ الْمَسَاغِ لِئَلَّا أَكُونَ مِمَّنْ إذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضَ الْمَسَاغِ لِأَنَّ الْوَعْدَ بِالتَّبَرُّعِ غَيْرُ مُوجِبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَوِّزٌ حِينًا، وَإِلَى
1 / 9
وَالْوَعْدُ يَسُوغُ بَعْضَ الْمَسَاغِ، وَحِينَ أَكَادُ أَتَّكِئُ عَنْهُ اتِّكَاءَ الْفَرَاغِ، تَبَيَّنْتُ فِيهِ نُبَذًا مِنْ الْإِطْنَابِ وَخَشِيتُ أَنْ يُهْجَرَ لِأَجْلِهِ الْكِتَابُ، فَصَرَفْتُ الْعِنَانَ وَالْعِنَايَةَ إلَى شَرْحٍ آخَرَ مَوْسُومٍ بِالْهِدَايَةِ، أَجْمَعُ فِيهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ عُيُونِ الرِّوَايَةِ وَمُتُونِ الدِّرَايَةِ، تَارِكًا لِلزَّوَائِدِ فِي كُلِّ بَابٍ، مُعْرِضًا عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِسْهَابِ، مَعَ مَا أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أُصُولٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهَا فُصُولٌ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِهَا، وَيَخْتِمَ لِي بِالسَّعَادَةِ بَعْدَ اخْتِتَامِهَا،
ــ
[العناية]
هَذَا الْمَعْنَى: أَعْنِي كَوْنَهُ هَضْمًا لِنَفْسِهِ ذَهَبَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَتَاجِ الشَّرِيعَةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرَهُ لِبَيَانِ صَلَاحِيَتِهِ لِذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ وَأَنَا مِنْهُمْ هُمْ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ، وَحَصَلَ الْوُقُوفُ لَنَا عَلَى الْمَآخِذِ بِالْإِتْقَانِ كَمَا حَصَلَ لَهُمْ فَجَازَ لَنَا الِاعْتِبَارُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَيَّ الْوَعْدُ، وَهُوَ مِمَّا يَسُوغُ بَعْضَ الْمَسَاغِ: يَعْنِي مُنْفَرِدًا عَنْ صَلَاحِيَةِ الْوَاعِدِ لِلْإِتْيَانِ بِالْمَوْعِدِ فَكَيْفَ مَعَ الصَّلَاحِيَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ لَكِنْ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْته مِنْ الْعِبَارَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَحِينَ أَكَادُ أَتَّكِئُ عَنْهُ اتِّكَاءَ الْفَرَاغِ) قِيلَ عَدَّى الِاتِّكَاءَ بِعَنْ وَإِنْ كَانَتْ تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى لِتَضْمِينِ مَعْنَى الْفَرَاغِ، وَرُدَّ بِأَنَّ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ وَحِينَ أَكَادُ أَفْرَغُ عَنْهُ فَرَاغَ الْفَرَاغِ وَهُوَ تَرْكِيبٌ فَاسِدٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَنْهُ صِلَةُ الْفَرَاغِ قُدِّمَ عَلَيْهِ رِعَايَةً لِلسَّجْعِ.
وَقَوْلُهُ (تَبَيَّنْت) أَيْ عَلِمْت، وَالنَّبْذُ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ، وَقَوْلُهُ (فَصَرَفْت الْعَنَانَ وَالْعِنَايَةَ) يَعْنِي عَنَانَ الْخَاطِرِ وَعِنَايَةَ الْقَلْبِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْعَنَانِ الظَّاهِرُ وَبِالْعِنَايَةِ الْبَاطِنُ. وَقَوْلُهُ (أَجْمَعَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ صَرَفْت وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ شَرْحٍ، وَعُيُونُ الرِّوَايَةِ هِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا الْعُلَمَاءُ ﵏، فَإِذًا عَيْنُ الشَّيْءِ خِيَارُهُ وَمُتُونُ الدِّرَايَةِ الْمَعَانِي الْمُؤَثِّرَةُ وَالنِّكَاتُ الْمَتِينَةُ.
وَقَوْلُهُ فِي كُلِّ بَابٍ: يَعْنِي مِنْ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَقَوْلُهُ (عَنْ هَذَا النَّوْعِ) إشَارَةٌ إلَى الَّذِي وَقَعَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى وَخَافَ أَنْ يَهْجُرَ لِأَجْلِهِ الْكِتَابَ، وَالْإِسْهَابُ هُوَ الْإِطْنَابُ، وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِأَزْيَدَ مِنْ مُتَعَارَفِ الْأَوْسَاطِ. وَقَوْلُهُ (مَعَ مَا أَنَّهُ) دَفْعٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مُوجَزًا خَلَا عَنْ الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْهَجْرِ مِنْ الْأَوَّلِ فَقَالَ لَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ خَالِيًا عَنْ الْإِطْنَابِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أُصُولٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهَا فُصُولٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ جَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الطَّلَبَةِ خَيْرًا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ خَدَمَ كِتَابَهُ حَقَّ خِدْمَتِهِ، فَمَا ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ بِكُلِّ شَرْطٍ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ يَفْسُدُ الْبَيْعُ، فَإِنَّ فِي كُلِّ قَيْدٍ مِنْهُ احْتِرَازًا عَمَّا يُضَادُّهُ وَجَمْعًا لَمَا يُوَافِقُهُ.
وَقَوْلُهُ (لِإِتْمَامِهَا وَاخْتِتَامِهَا) الضَّمِيرُ لِلْهِدَايَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فِيهِمَا
1 / 10
حَتَّى إنَّ مَنْ سَمَتْ هِمَّتُهُ إلَى مَزِيدِ الْوُقُوفِ يَرْغَبُ فِي الْأَطْوَلِ وَالْأَكْبَرِ، وَمَنْ أَعْجَلَهُ الْوَقْتُ عَنْهُ يَقْتَصِرْ عَلَى الْأَقْصَرِ وَالْأَصْغَرِ. وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ وَالْفَنُّ خَيْرٌ كُلُّهُ.
ثُمَّ سَأَلَنِي بَعْضُ إخْوَانِي أَنْ أُمْلِيَ عَلَيْهِمْ الْمَجْمُوعَ الثَّانِي، فَافْتَتَحْتُهُ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيرِ مَا أُقَاوِلُهُ مُتَضَرِّعًا إلَيْهِ فِي التَّيْسِيرِ لِمَا أُحَاوِلُهُ، إنَّهُ الْمُيَسِّرُ لِكُلِّ عَسِيرٍ وَهُوَ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ــ
[العناية]
وَالضَّمِيرُ لِلشَّرْحَيْنِ. وَقَوْلُهُ (حَتَّى إنَّ مَنْ سَمَتْ) مُتَّصِلٌ بِتَارِكًا لِلزَّوَائِدِ أَوْ بِصُرِفَتْ، وَسَمَتْ بِمَعْنَى عَلَتْ، وَالْمَزِيدُ مَصْدَرٌ كَالزِّيَادَةِ (وَمَنْ أَعْجَلَهُ الْوَقْتُ) بِمَعْنَى عَجَّلَهُ: أَيْ اسْتَحَثَّهُ، وَإِسْنَادُهُ إلَى الْوَقْتِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ كَصِيَامِ النَّهَارِ وَالشِّعْرِ لِأَبِي فِرَاسٍ، وَقَبْلَهُ:
عَلَيَّ لِرَبْعِ الْعَامِرِيَّةِ وَقْفَةٌ ... لِيُمْلِيَ عَلَيَّ الشَّوْقُ وَالدَّمْعُ كَاتِبُ
وَمِنْ عَادَتِي حُبُّ الدِّيَارِ لِأَهْلِهَا ... وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ
(وَالْفَنُّ خَيْرٌ كُلُّهُ) أَيْ هَذَا الْفَنُّ وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ كُلُّهُ خَيْرٌ، فَإِنْ شِئْت فَارْغَبْ فِي الْأَقْصَرِ وَالْأَخْصَرِ حِفْظًا وَتَحْصِيلًا وَإِنْ شِئْت فِي الْأَطْوَلِ وَالْأَكْبَرِ كَشْفًا وَتَأْصِيلًا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ جِنْسُ الْعِلْمِ حَسَنٌ فَارْغَبْ فِي أَيِّ نَوْعٍ شِئْت، وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ لَكِنْ لَا تَقْرِيبَ لَهُ هُنَا، وَالْمُرَادُ بِالْمَجْمُوعِ الثَّانِي هُوَ الْهِدَايَةُ، وَكَأَنَّهُ بَعْدَ صَرْفِ الْعَنَانِ وَالْعِنَايَةِ لَمْ يَشْرَعْ فِيهِ حَتَّى سَأَلَهُ إخْوَانُهُ الْإِمْلَاءَ عَلَيْهِمْ فَافْتَتَحَ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ فِي تَحْرِيرِ: أَيْ تَقْوِيمِ مَا يُقَاوِلُهُ وَتَلْخِيصِهِ. وَفِي لَفْظِ الْمُفَاعِلَةِ مَزِيدُ مُزَاوَلَةٍ وَمُقَاسَاةٍ لَيْسَ فِي الْقَوْلِ. وَحَاوَلْت الشَّيْءَ أَرَدْته، وَيُقَالُ فُلَانٌ جَدِيرٌ بِكَذَا: أَيْ خَلِيقٌ بِهِ.
رُوِيَ أَنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ بَقِيَ فِي تَصْنِيفِ الْكِتَابِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ صَائِمًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يُفْطِرُ أَصْلًا، وَكَانَ يَجْتَهِدُ أَلَّا يَطَّلِعَ عَلَى صَوْمِهِ أَحَدٌ، فَإِذَا أَتَى خَادِمٌ بِطَعَامٍ يَقُولُ خَلِّهِ وَرُحْ، فَإِذَا رَاحَ كَانَ يُطْعِمُهُ أَحَدَ الطَّلَبَةِ أَوْ غَيْرَهُمْ، فَكَانَ بِبَرَكَةِ زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ كِتَابُهُ مُبَارَكًا مَقْبُولًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
1 / 11
كِتَابُ الطِّهَارَاتِ:
ــ
[العناية]
[كِتَابُ الطَّهَارَاتِ]
الْكِتَابُ وَالْكِتَابَةُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ الْحُرُوفِ، وَالْكِتَابُ قَدْ يُعْرَفُ بِأَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ اُعْتُبِرَتْ مُسْتَقِلَّةً شَمَلَتْ أَنْوَاعًا أَوْ لَمْ تَشْمَلْ، فَقَوْلُهُ طَائِفَةٌ كَالْجِنْسِ، وَقَوْلُهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ احْتِرَازٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَقَوْلُهُ اُعْتُبِرَتْ مُسْتَقِلَّةً: أَيْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَبَعِيَّتِهَا لِلْغَيْرِ أَوْ تَبَعِيَّةِ غَيْرِهَا لَهَا لِيَدْخُلَ فِيهِ هَذَا الْكِتَابُ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلصَّلَاةِ، وَيَدْخُلُ كِتَابُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مُسْتَتْبِعٌ لِلطَّهَارَةِ، وَقَدْ اُعْتُبِرَا مُسْتَقِلَّيْنِ، أَمَّا كِتَابُ الطَّهَارَةِ فَلِكَوْنِهِ الْمِفْتَاحَ، وَأَمَّا كِتَابُ الصَّلَاةِ فَلِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ اعْتِبَارَ الِاسْتِقْلَالِ قَدْ يَكُونُ لِانْقِطَاعِهِ عَنْ غَيْرِهِ ذَاتًا كَكِتَابِ اللُّقَطَةِ عَنْ كِتَابِ الْآبِقِ وَكِتَابِ الْمَفْقُودِ وَانْقِطَاعِهِمَا عَنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى يُورِثُ ذَلِكَ كَانْقِطَاعِ الصَّرْفِ عَنْ الْبُيُوعِ وَالرَّضَاعِ عَنْ النِّكَاحِ وَالطَّهَارَةِ عَنْ الصَّلَاةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُهُ شَمَلَتْ أَنْوَاعًا أَوْ لَمْ تَشْمَلْ لِدَفْعِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْكِتَابُ اسْمٌ لِجِنْسٍ يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْحِكَمِ وَكُلُّ نَوْعٍ يُسَمَّى بِالْبَابِ، وَالْبَابُ اسْمٌ لِنَوْعٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَشْخَاصٍ تُسَمَّى فُصُولًا، فَإِنَّ الْكِتَابَ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَإِنَّ مِنْ الْكُتُبِ مَا لَا يُذْكَرُ فِيهِ بَابٌ وَلَا فَصْلٌ كَكِتَابِ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ وَالْآبِقِ وَغَيْرِهَا عَلَى مَا يَأْتِي، فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَرُبَّمَا تُوُهِّمَ ذَلِكَ فَذَكَرَهُ دَفْعًا لِذَلِكَ.
وَالطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ ظَاهِرَةٌ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ تَحْصُلُ لِمُزِيلِ الْحَدَثِ أَوْ الْخُبْثِ عَمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَالْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا، وَكَلِمَةُ أَوْ لَيْسَتْ بِمَانِعَةِ الْجَمْعِ فَلَا يَفْسُدُ بِهَا الْحَدُّ، وَقَوْلُهُ عَمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ الصَّلَاةُ لِيَتَنَاوَلَ الْمَكَانَ فَإِنَّ طَهَارَتَهُ شَرْطٌ عَلَى مَا يَأْتِي، وَرُكْنُهَا اسْتِعْمَال الْمُزِيلِ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا الْحَدَثُ أَوْ الْخُبْثُ، وَسَبَبُهَا وُجُوبُ الصَّلَاةِ: لَا وُجُودُهَا، لِأَنَّ وُجُودَهَا مَشْرُوطٌ بِهَا فَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا، وَالْمُتَأَخِّرُ لَا يَكُونُ سَبَبًا
1 / 12
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] الْآيَةَ.
ــ
[العناية]
لِلْمُتَقَدِّمِ. وَحُكْمُهَا إبَاحَةُ الصَّلَاةِ أَوْ مَا يُضَاهِيهَا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ. وَإِنَّمَا جَمَعَ الطِّهَارَاتِ نَظَرًا إلَى أَنْوَاعِهَا، وَلَا يُشْكِلُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْجَمْعِ فِي مِثْلِهِ أَحَدُ الْجَائِزَيْنِ فَلَا يَرِدُ تَرْكُهُ نَقْضًا.
وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الطَّهَارَةِ بِذَلِكَ أَنَّ أَنْوَاعَهَا أَحْسَنُ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا لِتَفَاوُتِهَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمُ وَالْخِفَّةُ وَالْغِلَظُ، بِخِلَافِ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَلَا يُشْكِلُ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا دُعَاءٌ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ بِكِتَابِ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهَا مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ الْوَاجِبُ تَقْدِيمُهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ عَلَى كُلِّ عِبَادَةٍ.
قَالَ ﵀ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٦] تَبَرَّكَ الْمُصَنِّفُ ﵀ بِتَقْدِيمِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ عَلَى حُكْمِهَا وَإِنْ كَانَتْ الْقَاعِدَةُ فِي الدَّعَاوَى تَقْدِيمَ الْمُدَّعَى، وَمَعْنَى قَوْلِهِ ﴿إِذَا قُمْتُمْ﴾ [المائدة: ٦] إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ الْخَاصِّ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ، وَذَلِكَ مَجَازٌ شَائِعٌ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْتِفَاتٌ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ قَالُوا: مَعْنَاهُ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَفْوِيتُ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ بِالِاشْتِغَالِ بِمُقَدِّمَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرُوا كَانَ كُلُّ مَنْ جَلَسَ مُتَوَضِّئًا لَزِمَهُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وُضُوءٌ آخَرُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْوِيتُ الصَّلَاةِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ الْحَدَثَ شَرْطُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ التَّيَمُّمَ فِي قَوْلِهِ ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ [المائدة: ٦] إلَى قَوْلِهِ
1 / 13
(فَفَرْضُ الطَّهَارَةِ: غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ) بِهَذَا النَّصِّ،
ــ
[العناية]
﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [المائدة: ٦] مَقْرُونًا بِذِكْرِ الْحَدَثِ وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ.
وَالنَّصُّ فِي الْبَدَلِ نَصٌّ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أُضْمِرَ قَوْلُهُ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ آيَةَ الطَّهَارَةِ بِذِكْرِ الْحَدَثِ كَمَا قَالَ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] وَلَمْ يَقُلْ هُدًى لِلضَّالِّينَ الصَّائِرِينَ إلَى التَّقْوَى بَعْدَ الضَّلَالِ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ أُولَى الزَّهْرَاوَيْنِ بِذِكْرِ الضَّلَالَةِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْجُلُوسَ فِي الْوُضُوءِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا يَتِمُّ مَا ذَكَرْتُمْ، وَعَلَى الثَّانِي بِأَنَّ الْآيَةَ بِعِبَارَتِهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ، وَآيَةُ التَّيَمُّمِ تَدُلُّ بِدَلَالَتِهَا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْمُحْدِثِينَ، وَالْعِبَارَةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الدَّلَالَةِ كَمَا عُرِفَ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْجُلُوسَ فِي الْوُضُوءِ غَيْرُ وَاجِبٍ لَكِنْ خِلَافُ مَا ذَكَرْنَا يُفْضِي إلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ لِلْوُضُوءِ دَائِمًا لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ لَا يَتَحَقَّقُ إذْ ذَاكَ إلَّا إذَا تَوَضَّأَ قَائِمًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا يُفْضِي إلَى الْبَاطِلِ بَاطِلٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ غَيْرُ مُرَادٍ فَلَا تَقْتَضِي عِبَارَتُهُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ فَتَسْلَمُ الدَّلَالَةُ عَنْ الْمُعَارِضِ وَيَسْقُطُ السُّؤَالُ الثَّانِي.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالدَّلَالَةِ فَاسِدٌ هَاهُنَا لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ وُجُوبِ التَّيَمُّمِ بِوُجُوبِ الْحَدَثِ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ الْبَدَلُ الْأَصْلَ فِي الشَّرْطِ فَإِنَّهُ خَالَفَهُ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَهِيَ شَرْطٌ لَا مَحَالَةَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَنَا فِي مُخَالَفَةِ الْبَدَلِ الْأَصْلُ فِي شَرْطِ السَّبَبِ، فَإِنَّ إرَادَةَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ بِشَرْطِ الْحَدَثِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ، وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فِي سَبَبِهِ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ بِشَرْطِ السَّبَبِ، فَإِنَّ إرَادَةَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ بِشَرْطِ نِيَّةِ التَّيَمُّمِ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لَهُ، وَإِنَّمَا النِّيَّةُ شَرْطُ صِحَّةِ التَّيَمُّمِ لَا شَرْطُ سَبَبِهِ.
قَالَ (فَفَرَضَ الطَّهَارَةَ) الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ دَخَلَتْ عَلَى الْحُكْمِ بَعْدَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ، وَالْفَرْضُ بِمَعْنَى الْمَفْرُوضِ، وَالْمُرَادُ بِالطَّهَارَةِ الْوُضُوءُ، وَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْغُسْلَ وَالْمَسْحَ مَعَ ظُهُورِ مَعْنَاهُمَا إشَارَةً إلَى دَفْعِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَإِلَى أَنَّ الْبَلَلَ بِالْمَاءِ فِي الْمَغْسُولَاتِ لَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ﵀. وَقُصَاصُ الشَّعْرِ مُنْتَهَاهُ وَغَايَتُهُ فِي الرَّأْسِ. وَفِي الْقَافِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ وَالضَّمُّ أَعْلَاهَا.
وَقَوْلُهُ
1 / 14
وَالْغَسْلُ هُوَ الْإِسَالَةُ وَالْمَسْحُ هُوَ الْإِصَابَةُ. وَحَدُّ الْوَجْهِ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنِ؛ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهَا (وَالْمِرْفَقَانِ وَالْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ﵀،
ــ
[العناية]
وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهَا) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الثُّلَاثِيَّ لَا يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ الْمُنْشَعِبَةِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الِاشْتِقَاقِ الصَّغِيرِ، وَأَمَّا فِي الِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ تَنَاسُبٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْمِرْفَقَانِ وَالْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغُسْلِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَدْخُلَانِ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلَ تَحْتَ الْمُغَيَّا كَاللَّيْلِ فِي الصَّوْمِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لِزُفَرَ يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ لَهُ فِي نُسَخِ الْأُصُولِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ لَهُ فِيهَا تَعَارُضُ الْأَشْبَاهِ وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْغَايَاتِ مَا يَدْخُلُ كَقَوْلِهِ قَرَأْت الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَدْخُلُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠] وَقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] وَهَذِهِ الْغَايَةُ: أَعْنِي الْمَرَافِقَ تُشْبِهُ كُلًّا مِنْهُمَا فَلَا تَدْخُلُ بِالشَّكِّ، وَتَأْوِيلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ: أَعْنِي الْمَرَافِقَ لَا تَدْخُلُ بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ كَمَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ ﴿إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا: يَعْنِي أَنَّ الْغَايَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَكُونُ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهَا، وَنَوْعٌ يَكُونُ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا.
وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا حَالُ صَدْرِ الْكَلَامِ، فَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِمَا وَرَاءَهَا كَانَتْ لِلثَّانِي وَإِلَّا فَلِلْأَوَّلِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الثَّانِي لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ الْآبَاطَ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ ﵃ وَهْم أَهْلُ اللِّسَانِ
1 / 15
هُوَ يَقُولُ: الْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا كَاللَّيْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ.
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا إذْ لَوْلَاهَا لَاسْتَوْعَبَتْ الْوَظِيفَةُ الْكُلَّ، وَفِي بَابِ الصَّوْمِ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهَا إذْ الِاسْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِمْسَاكِ سَاعَةً،
ــ
[العناية]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
1 / 16
وَالْكَعْبُ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ هُوَ الصَّحِيحُ وَمِنْهُ الْكَاعِبُ. قَالَ (وَالْمَفْرُوضُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبْعُ الرَّأْسِ) لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ» وَالْكِتَابُ مُجْمَلٌ فَالْتَحَقَ بَيَانًا بِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي التَّقْدِيرِ بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، وَعَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ
ــ
[العناية]
فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ آيَةِ التَّيَمُّمِ فَتَبْقَى الْمَرْفِقُ دَاخِلَةً، بِخِلَافِ ذِكْرِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْإِمْسَاكَ سَاعَةً فَكَانَتْ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَيَبْقَى اللَّيْلُ خَارِجًا (وَالْكَعْبُ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ) النَّتْءُ وَالنُّتُوءُ الِارْتِفَاعُ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ هُوَ الْمَفْصِلُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، قَالَ: لِأَنَّ الْكَعْبَ اسْمٌ لِلْمَفْصِلِ وَمِنْهُ كُعُوبُ الرُّمْحِ، وَاَلَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ مَفْصِلٌ وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ خُفَّيْهِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، فَأَمَّا فِي الطَّهَارَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْعَظْمُ النَّاتِئُ الْمُتَّصِلُ بِعَظْمِ السَّاقِ، وَمِنْهُ الْكَاعِبُ وَهِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي يَبْدُو ثَدْيُهَا لِلنُّهُودِ (قَوْلُهُ وَالْمَفْرُوضُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ) أَيْ الْمُقَدَّرِ عَلَى جِهَةِ الْفَرْضِيَّةِ (مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبْعُ الرَّأْسِ) وَهُوَ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ» وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى إيرَادِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، لِأَنَّ نَقْلَ الْحَدِيثِ بِمَا يَتْلُوهُ مِنْ الْحِكَايَةِ يُوجِبُ صِحَّتَهُ وَوَكَادَتَهُ. قِيلَ هُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَقِيلَ حَدِيثَانِ جَمَعَ الْقُدُورِيُّ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ السُّبَاطَةِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ وَاَلَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الْمَسْحُ عَلَيْهَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ السُّبَاطَةُ، وَالسُّبَاطَةُ الْكُنَاسَةُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْحَالِّ وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ.
وَقَوْلُهُ (وَالْكِتَابُ مُجْمَلٌ فَالْتَحَقَ بَيَانًا بِهِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا يُزَادُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْكِتَابِ بَلْ الْكِتَابُ مُجْمَلٌ فَالْتَحَقَ الْخَبَرُ بَيَانًا بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ خَبَرُ الْوَاحِدِ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكِتَابَ مُجْمَلٌ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ مَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا
1 / 17
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[العناية]
بِبَيَانٍ مِنْ الْمُجْمِلِ، وَالْعَمَلُ بِهَذَا النَّصِّ مُمْكِنٌ بِحَمْلِهِ عَلَى الْأَقَلِّ لِتَيَقُّنِهِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ وَالْخَبَرُ بَيَانٌ لَهُ، وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ أَخَصُّ مِنْ الْمَدْلُولِ، فَإِنَّ الْمَدْلُولَ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبْعُ الرَّأْسِ، وَالدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ النَّاصِيَةِ، وَمِثْلُهُ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ. سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ فَرْضٌ لِأَنَّ الْفَرْضَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ لَازِمَهُ وَهُوَ تَكْفِيرُ الْجَاحِدِ مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي الْمَلْزُومُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ قَبْلَ الْبَيَانِ مُمْكِنٌ قَوْلُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَقَلِّ، قُلْنَا: لَا أَقَلَّ مِنْ شَعْرَةٍ وَالْمَسْحُ عَلَيْهَا لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا، وَمَا لَا يُمْكِنُ الْفَرْضُ إلَّا بِهِ فَهُوَ فَرْضٌ، وَالزِّيَادَةُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَتَحَقَّقَ الْإِجْمَالُ فِي الْمِقْدَارِ، وَالْبَيَانُ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا فِيهِ الْإِجْمَالُ، فَكَأَنَّ النَّاصِيَةَ بَيَانٌ لِلْمِقْدَارِ لَا لِلْمَحَلِّ الْمُسَمَّى نَاصِيَةً، إذْ لَا إجْمَالَ فِي الْمَحَلِّ فَكَانَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ وَإِرَادَةِ الْعَامِّ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ فَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْعُمُومِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا لَحِقَ بَيَانًا لِلْمُجْمَلِ كَانَ الْحُكْمُ بَعْدَهُ مُضَافًا إلَى
1 / 18
الِاسْتِيعَابِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: قَدَّرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي آلَةِ الْمَسْحِ.
ــ
[العناية]
الْمُجْمَلِ دُونَ الْبَيَانِ وَالْمُجْمَلُ مِنْ الْكِتَابِ، وَالْكِتَابُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْجَاحِدَ مَنْ لَا يَكُونُ مُؤَوِّلًا، وَمُوجِبُ الْأَقَلِّ أَوْ الِاسْتِيعَابُ مُؤَوِّلٌ يَعْتَمِدُ شُبْهَةً قَوِيَّةً، وَقُوَّةُ الشُّبْهَةِ تَمْنَعُ التَّكْفِيرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا مَنَعُوا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ فِي نَظَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِتَأْوِيلِهِمْ.
وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا كَانَ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي التَّقْدِيرِ بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، وَعَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِهِ الِاسْتِيعَابَ (قَوْلُهُ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَدَّرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِثَلَاثِ أَصَابِعَ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي آلَةِ الْمَسْحِ) وَهِيَ الْأَصَابِعُ، قِيلَ هِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِكَوْنِهَا الْمَذْكُورَةَ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَوْ وَضَعَ الْأَصَابِعَ وَلَمْ يَمُدَّهَا جَازَ، بِخِلَافِ الْأُولَى. .
1 / 19
قَالَ (وَسُنَنُ الطَّهَارَةِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ
ــ
[العناية]
قَالَ (وَسُنَنُ الطَّهَارَةِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ بَيَّنَ سُنَنَهُ، وَالسَّنَةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ، وَحُكْمُهَا أَنْ يُثَابَ عَلَى الْفِعْلِ وَيَسْتَحِقَّ الْمَلَامَةَ بِالتَّرْكِ لَا غَيْرُ.
وَسُنَنُ الطَّهَارَةِ: أَيْ الْوُضُوءِ وَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، وَإِنَّمَا جَمَعَ دُونَ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ فَرُوعِيَ ذَلِكَ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْجَمْعِ بِخِلَافِ السُّنَّةِ، وَذِكْرُ الْإِنَاءِ وَقَعَ عَلَى عَادَتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ مِنْ الْأَتْوَارِ. وَطَرِيقُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ أَنْ يَأْخُذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ إنْ كَانَ صَغِيرًا وَيَصُبَّ عَلَى يَمِينِهِ فَيَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُمْكِنُهُ
1 / 20
إذَا اسْتَيْقَظَ الْمُتَوَضِّئُ مِنْ نَوْمِهِ) لِقَوْلِهِ ﵊ «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَلِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ التَّطْهِيرِ فَتُسَنُّ الْبُدَاءَةُ بِتَنْظِيفِهَا، وَهَذَا الْغَسْلُ إلَى الرُّسْغِ لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِ فِي التَّنْظِيفِ.
قَالَ (وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ) لِقَوْلِهِ ﵊ «لَا وُضُوءَ
ــ
[العناية]
رَفْعُهُ يَأْخُذُ عَنْهُ الْمَاءَ بِإِنَاءٍ آخَرَ صَغِيرٍ إنْ كَانَ مَعَهُ فَيَصُبُّهُ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ، وَإِلَّا يُدْخِلْ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى مَضْمُومَةً دُونَ الْكَفِّ، وَيَصُبَّ عَلَى يَمِينِهِ فَيَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ يُدْخِلُ الْيَمِينَ.
وَقَوْلُهُ: (إذَا اسْتَيْقَظَ الْمُتَوَضِّئُ) نُقِلَ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدَرِيِّ أَنَّهُ شَرْطٌ حَتَّى إذَا لَمْ يَسْتَيْقِظْ لَا يُسَنُّ غَسْلُهُمَا وَقِيلَ هُوَ شَرْطٌ اتِّفَاقِيٌّ، خَصَّ الْمُصَنِّفُ غَسْلَهُمَا بِالْمُسْتَيْقِظِ تَبَرُّكًا بِلَفْظِ الْحَدِيثِ. وَالسَّنَةُ تَشْمَلُ الْمُسْتَيْقِظَ وَغَيْرَهُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ.
وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ الْوُضُوءَ وَاجِبٌ، وَقَدْ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْغَمْسِ، وَالْغَمْسُ حَرَامٌ حَتَّى يَغْسِلَ الْيَدَ ثَلَاثًا فَيَكُونَ الْغَمْسُ وَالْغَسْلُ وَاجِبَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، لَكِنْ تَرَكْنَا الْوُجُوبَ إلَى السُّنَّةِ فِي الْغَسْلِ لِأَنَّهُ ﷺ عَلَّلَ بِتَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ، وَتَوَهُّمُهَا لَا يُوجِبُ التَّنَجُّسَ الْمُوجِبَ لِلْغَسْلِ فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى التَّوَرُّعِ وَالِاحْتِيَاطِ.
وَقَوْلُهُ: (وَلِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ التَّطْهِيرِ) مَبْنَاهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، لَكِنَّهُ تُرِكَ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْعُضْوِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَالرُّسْغُ مُنْتَهَى الْكَفِّ عِنْدَ الْمَفْصِلِ. .
وَقَوْلُهُ: (وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ) قَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ، وَقِيلَ إنَّهُ مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ ﷺ «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ» وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ فَبِحَقِيقَتِهِ يَقْتَضِي أَلَّا يَكُونَ وُضُوءٌ إلَّا بِتَسْمِيَةٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ وَأَحْمَدُ وَجَعَلُوا التَّسْمِيَةَ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ، لَكِنَّا قُلْنَا الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ نَسْخُ آيَةِ الْوُضُوءِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَحِينَئِذٍ كَانَ كَقَوْلِهِ ﷺ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَهُوَ أَفَادَ الْوُجُوبَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ خَبَرَ الْفَاتِحَةِ مَشْهُورٌ دُونَهُ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ
1 / 21
لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ» وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَإِنْ سَمَّاهَا فِي الْكِتَابِ سُنَّةً،
ــ
[العناية]
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَاظَبَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ دُونَ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُ رَوَى «أَنَّ مُهَاجِرَ بْنَ قُنْفُذٍ سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ، فَقَالَ ﵊ إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك إلَّا أَنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ» وَرُبَّمَا تَمَسَّكَ بِهِ مَالِكٌ ﵀ وَأَنْكَرَ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَذْبَحَ، إشَارَةً إلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الذَّبْحِ دُونَ الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ كَمَا تَرَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ﷺ تَوَضَّأَ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ، وَكَوْنُهَا سُنَّةً مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ وَالْقُدُورِيِّ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ وَإِنْ سَمَّاهَا فِي الْكِتَابِ يَعْنِي الْقُدُورِيَّ سُنَّةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا.
رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا ﵄
1 / 22
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[العناية]
حَكَيَا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمَا التَّسْمِيَةُ. وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ ﷺ سَمَّى فَهُوَ
1 / 23
وَيُسَمِّي قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ وَبَعْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ (وَالسِّوَاكُ) لِأَنَّهُ ﵊ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ وَعِنْدَ فَقْدِهِ
ــ
[العناية]
مِنْ بَابِ قَوْلِهِ ﵊ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» (وَيُسَمِّي قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ وَبَعْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ) دُونَ مَا قِيلَ يُسَمِّي قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ لِمَا أَنَّهُ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ فَيُسَمِّي قَبْلَهُ لِيَقَعَ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ فَرْضُهَا وَسُنَنُهَا بِالتَّسْمِيَةِ، وَمَا قِيلَ يُسَمِّي بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ حَالُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَذِكْرُ اللَّهِ حَالَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ﷺ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ» يَسْتَدْعِي التَّسْمِيَةَ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ، وَالِاسْتِنْجَاءُ لَمَّا كَانَ مُلْحَقًا بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ طَهَارَةٌ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُبْدَأَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ: (وَالسِّوَاكُ) أَيْ اسْتِعْمَالُهُ حُذِفَ الْمُضَافُ لِأَمْنِ الْإِلْبَاسِ. وَالسِّوَاكُ اسْمٌ لِخَشَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِلِاسْتِيَاكِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَشْجَارِ الْمُرَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُطَيِّبُ النَّكْهَةَ وَيَشُدُّ الْأَسْنَانَ وَيُقَوِّي الْمَعِدَةَ، وَيَكُونُ فِي غِلَظِ الْخِنْصَرِ وَطُولِ الشِّبْرِ، وَيَسْتَاكُ عَرْضًا لَا طُولًا عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ (؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ فَقْدِهِ) كَانَ
1 / 24