أومأ الشيخان بالموافقة وانصرفا. وناداني الشيخ لأحضر له الأوراق والريشة والمحبرة. كان مقطبا بادي الانزعاج. كتب قليلا، ثم قام وأخذ يتمشى في أنحاء القاعة وهو يجذب شعر لحيته. قرب الظهر طلب مني الذهاب إلى الرميلة لمعرفة الأخبار.
سحبت حماري وغادرت المنزل. خرجت على حماري إلى بين القصرين، ومضيت جنوبا حتى بوابة المتولي، فانطلقت في الشارع الطوالي الذي يبدأ عند تقاطع شوارع زويلة وقصبة رضوان والسكرية والدرب الأحمر. واصلت حتى شارعي المحجر والمحمودية إلى أن ظهرت مئذنة جامع السلطان حسن، فانحرفت يسارا حتى بلغت الجامع نفسه في ميدان الرميلة تجاه القلعة.
طفت بالميدان الذي يسمى بسوق العصر ويختص بتجارة الماشية والحبوب والخضراوات. كانت عربات الباعة الجائلين من صغار تجار التبغ وقصب السكر تتوسط الميدان، وبجوارهم قرادون يلعبون القرود. وقفت في طرف الميدان إلى جوار جامع صغير على ناصية الشارع المتجه إلى اللبودية والسيدة زينب. ترجلت عن حماري وربطته في عمود وجلست إلى جواره. اقترب مني رجلان في ملابس أولاد البلد. تطلعا إلي بنظرة متفحصة، ثم واصلا السير. تبعتهما ببصري، كانا يحدقان في المارة، ولاحظت أنهما لم يغادرا الميدان وإنما يطوفان به، وأدركت أنهما من عيون فرط الرمان.
تردد أذان صلاة الظهر. ومضى بعض الوقت وعيني على باب القلعة المعروف بباب العزب والمحصن ببرجين هائلين تزينهما الرايات البيضاء والحمراء، كان مغلقا وأمامه بضعة حراس من الفرنساوية. شعرت بالملل وقررت الانصراف. فجأة فتح باب القلعة وخرج عدد من جند الفرنساوية شاهري السيوف. وتبعهم جندي يحمل طبلا. وبعد قليل خرج حمار فوقه شيخ عاري الرأس. أدركت أنه محمد كريم.
تقدموا في الميدان والطبال يضرب على طبلته. ركبت حماري وتبعتهم من مبعدة. شقوا به الصليبة ثم كتفوه وربطوه وضربوا عليه بالبنادق، وأخيرا قطعوا رأسه، ورفعوه على نبوت، وطافوا به بجهات الرميلة والمنادي يقول: هذا جزاء من يخالف الفرنسيس.
عدت إلى البيت مهلوعا. رويت لأستاذي ما شاهدته فلم يعلق بشيء.
الثلاثاء 11 سبتمبر
كان أستاذي يلقي درسه في الجامع الأزهر. صعدت إلى مجلس العقد. أغلقت الباب خلفي. كان الخدم قد انتهوا من تنظيف القاعة. وكان خليل في وكالة أمه، أما جعفر فذهب إلى السوق. كنت في مأمن من أن يدخل علي أحد.
بحثت عن أوراق أستاذي التي يسميها «طيارات» ويسجل فيها وقائع الأيام. لم أجد أثرا لها فوق الأريكة أو أسفل وسائدها وحشيتها. تقدمت من خزانة الكتب وفتحتها. قلبت في محتوياتها دون أن أعثر على شيء. فتشت بقية الأرائك والمساند. طويت أطراف السجاد وبحثت أسفله وخلف الأسطرلاب وتحته.
جلست أفكر فوق الأريكة. كان يغادر القاعة عادة بلا شيء في يديه، ومعنى ذلك أنه كان يترك أوراقه بالداخل. ولما كان يخشى زيارة مباغتة من الفرنساوية فقد أخفاها في مكان ما قريب. تأملت محتويات الغرفة ثم قمت إلى خزانة الكتب وفتشتها من جديد. لاحظت فجأة أن أحد جوانبها أسمك من بقية الجوانب. أنزلت الكتب المجاورة على الأرض. وفحصت الجانب السميك. دفعته بإصبعي فتحرك حركة خفيفة. دفعته إلى أعلى. واكتشفت خلفه فراغا يضم أوراقا.
صفحه نامشخص