وانتشر علم الفراسة في الأجيال المظلمة، ولم يكتف أصحابه بالاستدلال من الملامح على الأخلاق والقوى، ولكنهم صاروا يتنبئون بالغيب، وتوسعوا بذلك حتى صاروا يستدلون من خطوط الكف وخطوط الجبين وبأشكال الأعضاء على مستقبل الإنسان من سعد أو نحس، وخلطوا بينها وبين النجامة والسحر، فأصبحت الفراسة من العلوم الخرافية، وزادت الناس أوهاما على أوهامهم، والمرء إن لم يزجره العلم أو الدين فإنه صائر إلى الأوهام من تلقاء نفسه، وعظم البلاء في أوروبا حتى أصدر جورج الثاني ملك إنكلترا أمرا بجلد كل من يدعي هذا العلم أو يتعاطاه، وفعل مثل ذلك غيره من ولاة الأمور ورجال الدين، فقلت ثقة الناس بعلم الفراسة وكاد يتلاشى أمره.
ثم عاد فلبس ثوبا جديدا على أثر ظهور فجر التمدن الحديث المؤسس على العلم الصحيح؛ إذ أخذ الناس في تمحيص الحقائق، فنظروا في علم الفراسة بعين العلم الطبيعي المبني على المشاهدة والاختبار، فألف ببتيستابورتا أحد الإيطاليان في أواخر القرن السادس عشر رسالة في الفراسة الإنسانية بين فيها حقيقة هذا العلم وفرق بينه وبين ما أدخلوه فيه من الخرافات والأوهام، وهو أول من نبه الأذهان إلى ذلك، وكتب غيره وبعده ولكنهم لم يفوا الموضوع حقه.
وفي 1778 ظهر كتاب العالم الألماني والباحث الشهير جون كسبار لافاتر، وقد بحث في هذا العلم بحثا طبيعيا مبنيا على الفيسيولوجيا والتشريح ونواميس الأخلاق، وزينه بالرسوم العديدة. ولم يكد يظهر في عالم المطبوعات حتى نقل إلى كل لغات أوروبا، وبين يدينا نسخة من ترجمته الإنكليزية في طبعة حديثة متقنة، تزيد صفحاتها على خمسمائة صفحة ورسومها على أربعمائة رسم. ولكن الكتاب لا يخلو من المغالط والأوهام، ولا غرو؛ لأن لافاتر ذكر في كتابه خلاصة ملاحظاته ومطالعاته الخصوصية على طريقة البحث الجديد، وكل جديد يحتاج إلى تنقيح، على أن كتابه هذا أول كتاب استوفى هذا البحث، وأما ما تطرق إلى أحكامه من الأوهام فقد استدركها من جاء بعده من الباحثين، وأكثرهم نسج على منواله، وفيهم الألمان والإنكليز والفرنساويون.
وأوسع ما وقع إلينا من هذه المؤلفات كتاب بالإنكليزية تأليف صموئيل ولس، صاحب جريدة الفرينولوجيا، نشر في نيويورك سنة 1866 في نحو ثمانمائة صفحة، وفيه ألف رسم.
فعلى ما تقدم ذكره من الكتب العربية والإفرنجية جل معتمدنا في كتابة هذا الكتاب، ناهيك بما وقفنا عليه من آراء أهل العلم غير هؤلاء، وما رجعنا إليه من كتب المراجعة كالموسوعات والقواميس والفهارس، وما اختبرناه بنفسنا أو استدللنا عليه بمطالعاتنا، وعلى الله الاتكال.
موضوع هذا الكتاب
أولا:
صدرنا الكتاب بمقدمات تمهيدية في «هل الفراسة علم صحيح؟» و«هل هي تصدق دائما؟» و«أن الفراسة قريحة خاصة.»
ثم ذكرنا تعليل الفراسة، وأتينا على خلاصة تشريحية وافية، ثم بينا ناموس التشابه وناموس التناسب، واستطرقنا من ذلك إلى باب فراسة الأمزجة، ففصلنا الأمزجة ودلائلها وأنواعها على رأي القدماء وعلى رأي المحدثين، ثم تكلمنا عن زاوية الوجه وشكله ونسبة ذلك إلى الأخلاق.
ثانيا:
صفحه نامشخص