علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
ژانرها
وفي كثير من الأحوال يضأل في نظر الإنسان الخير العام إلى حد أن لا يراه مستحقا تضحية شيء من المشتهيات لأجله، بل إلى حد أن تصبح مناقضة هذا الخير العام غاية مرغوبة؛ كأن يماطل المرء الحكومة في دفع الضريبة، أو يلقي قمامات الأقذار في الشارع حين غفلة البوليس، أو أن يخفي عن دائرة الصحة العمومية خبر إصابة وباء في بيته. فكل هذه وأمثالها يرتكبها الإنسان وهو يعتقد أنها ليست جرائم، ما دامت عين الحكومة لا تقع عليها، وقد يخدع الإنسان نفسه إذ يبررها لظنه أنها لا تضر أحدا، ولكن إذا ارتكبها سواه رأى شرها أعظم مما يراه لو هو ارتكبها.
وسبب ذلك أن الواجبات الاجتماعية تبدو دائما مهددة رغائب الإنسان الذي لم يتعلم، ولم يتحقق جيدا، ولم يفهم أن خير المجتمع وخيره الشخصي واحد؛ ولذلك هو يقابل الواجب نحو المجتمع كوقر ثقيل عليه، وينظر إلى القوانين والأنظمة المدنية كخصوم له. يرى أن هذه الأنظمة والقوانين تضيق دائرة حريته، وأن الواجبات المفروضة عليه نحو المجتمع تضغط على رغائبه.
ولذلك هو يقاوم القوانين ويحاول نفض الواجبات عن عاتقه، ولكنه إذا كان يفهم أن خيره متوقف على خير المجتمع جعل نظام المجتمع نظام نفسه، ووفق سلوكه عليه باختياره. فبقدر ما يفهم المرء هذه الحقيقة ويتشربها ويسلك بموجبها مختارا يكون فاضلا، وبقدر ما يجهلها أو يتجاهلها أو يأباها ويخالفها في سلوكه يكون رذيلا. (1-3) الرذيلة سقم سجية الفضيلة
الرذيلة كالفضيلة سجية، أو هي سقم سجية الفضيلة وضعفها؛ فكلما قويت هذه السجية تمكنت الفضيلة، وكلما ضعفت ظهرت الرذيلة، وبتلاشيها تتلاشى الفضيلة وتقوم الرذيلة مقامها. هي النزعة إلى أحد جانبي الخير والشر؛ فكلما مالت بالإنسان إلى الخير تعدلت الفضيلة، أو إلى الشر تعدلت الرذيلة. واتجاه هذه النزعة إلى الخير أو إلى الشر يتوقف على قوة الشخصية وضعفها، من حيث مقاومة الغرائز والنبضات والعواطف والشهوات البهيمية.
وقوة الشخصية تتفاوت بحسب اختلاف الظروف والأحوال التي تستدعي أقدارا معينة من القوة للمقاومة؛ ولذلك تتلون أعمال الإنسان وتصرفاته بألوان الفضيلة والرذيلة حسب الظروف والأحوال من جهة، وحسب متانة الشخصية الأدبية من جهة أخرى؛ فالشخصية الأمتن أكثر اتجاها إلى الخير، وتطبعا بالفضيلة، والعكس بالعكس.
وقد تقدم القول: إن الرذيلة كظل لما تحجبه الطبيعة الحيوانية من نور الفضيلة؛ فبقدر ما يكون نور الفضيلة ساطعا يكون ظل الرذيلة حالكا، وحيث لا نور فلا يظهر ظل. بهذا المعنى لا يختلف مظهر الرذيلة باختلاف الأشخاص من حيث تطبعهم بسجايا الفضائل، فإثم العاقل أوضح من إثم الجاهل، وخطأ العالم أفظع من خطأ الساذج.
تختلف مظاهر الرذيلة بحسب اختلاف الأحوال المقترنة بها؛ فهي شر أو معصية أو جريمة أو زلة كما ترى فيما يلي: (2) طائفة الرذائل (2-1) الشر
الشر سجية في النفس تلوثها بأدران الشهوات البهيمية، والشرير من كانت له هذه السجية من غير نظر إلى سلوكه؛ فقد لا تؤذن له الظروف بأن يأتي شرا، ولكن متى أذنت له أتى الشر. وقد يأتي من المحامد ما يوهم أنه فاضل، ولكن شرا واحدا خطيرا يأتيه في ظروف حرة لا يدع عندك شكا بأنه شرير؛ ففعل الشر هو أعم مظهر للرذيلة.
إن السجية صفة داخلية للنفس، وهي واسعة المجال في العالم النفساني الخفي؛ ولذلك قلما تظهر للعالم المحسوس، ولا تتمثل دائما كما هي في الأعمال الخارجية الظاهرة، كما أنها لا تختفي كل الاختفاء، بل لا بد أن يظهر ظلها ولو بعض الظهور في الأفعال الخارجية المحسوسة.
ولذلك لا يقف الحكم الأدبي عند الظواهر، بل يتغلغل إلى البواطن حيث تنبض محركات الأفعال، وتسيطر مدرباتها، فلا يحكم على هذا الفعل إن كان حقا وعدلا وصوابا لمجرد ظاهره فقط، بل يحسب محركاته ومدرباته؛ فإذا شبت النار في هشيم من سيكارة رماها شخص في مكان قريب، فقذفتها الريح إلى الهشيم، فلا بد من التحقيق إن كان الشخص قد قصد برميها إلى هذه الغاية أو لم يقصد. قد يفشل المحقق فلا يستطيع إثبات القصد، ولكن رامي السيكارة نفسه يعرف نفسه إن كان قد تعمد إحراق الهشيم أو لم يتعمده.
صفحه نامشخص