علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
ژانرها
التي تحصر الحرية هي الأحوال الخارجة عن شخصية الإنسان، والتي لا تأثير له فيها بتاتا، ولا قدرة له على تكييفها أو تغيير شيء فيها.
ففي هذه الأحوال ليس الإنسان مسئولا؛ لأنه ليس حرا. لا يمكنك أن تقول له: «يجب عليك»؛ لأنه يقول لك: «لا أقدر»، فحيث لا مقدرة فلا وجوب. لا حق لك أن تلوم فلانا لعدم عبره النهر؛ لأنه لا يحسن السباحة بتاتا، ولا أن تحرج ربان السفينة على السفر والبحر متلاطم الأمواج والعواصف، والأنواء مهددة له بالأخطار، ولا أن تلوم باني البيت إذا هدم الزلزال البيت. إذن الدائرة الأولى هي دائرة المستحيلات.
الدائرة الثانية:
هي كالدائرة الأولى خارجة عن شخصية الإنسان أيضا، وليس له تأثير فيها بتاتا، وإنما يمكنه أن يخرج منها إلى حريته إذا علم بها، فربان السفينة يمكنه أن يعدل عن السفر إذا علم من الأنواء أخطار السفر.
ولا يمكنك أن تلوم الراعي إذا فاجأه وحش ضار وافترس أحد خرافه، وإنما تلومه إذا رعى خرافه في مكان يعلم أنه مسبعة أو مضبعة؛ فهذه الدائرة هي دائرة المجهولات أو الجهل، حيث لا يحق لك أن تقول: «كان يجب» لمن يقول لك: «كنت أجهل».
الدائرة الثالثة:
هي القسم الأسفل من ذاتية الإنسان غير خارجة عنه، ولكنها شديدة النفوذ والتمرد على إرادته؛ وهي غرائزه وأخلاقه الراسخة كشهواته وعواطفه وانفعالاته إلخ، فهذه تضيق دائرة حركته أيضا؛ إذ يجد نفسه في بعض الأحوال مضطرا للفعل، ولو بعض الاضطرار، وله عذر أو بعض العذر. فالجوع كافر؛ ولذلك لم ير المسيح إثما في أن يقطف تلاميذه سنابل القمح ويأكلوها حين جاعوا. وقد يعذر الأب إذا غضب من غريم ابنه فضربه على الفور ؛ لأن عاطفته الأبوية وانفعاله الغضبي لم يمهلا تعقله لكي يؤثر المسامحة على الانتقام.
ولكن لأن هذه الدائرة مرسومة في ذاتية الإنسان فهي قابلة للمط والتوسع؛ بأن يهذب الإنسان أخلاقه ويدمثها، ويتعود قمع غرائزه، بحيث تتسيطر الإرادة عليها، وتكون أكثر حرية في الاختيار؛ ولذلك يتفاوت الناس في الأمة الواحدة من حيث هذه الدائرة تفاوتا عظيما أو قليلا، حسب نمط التربية والتعليم ودرجة البيئة الاجتماعية في الحضارة والرقي التمدني؛ فنجد أفرادا أدمث خلقا، وأضبط للأهواء، وأقمع للشهوات من أفراد، وكذلك نجد تباينا في هذه الدائرة بين الأمم. إذن في هذه الدائرة تتسع حرية الفرد، أي ينبسط أمامه مجال الاختيار، فقلما يقول أو يصح له أن يقول: «كنت مضطرا أو لم أقدر.»
الدائرة الرابعة:
هي القسم الآخر الأعلى من ذاتية الإنسان المقاومة للقسم الأول من ذاتيته، وهي تعقله الذي يناهض ثورة غرائزه، فهذه توسع دائرة حريته بأكثر مما تضيقها تلك. إذن يمكنك أن تقول لمن اتخم من النهم: «ألم تشعر بأنك شبعت؟ فلماذا نهمت؟ أما كنت تعلم أن التخمة تضر المعدة وتسبب المغص؟ أليس لك وجدان يصد شراهتك؟»
صفحه نامشخص