علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
ژانرها
(1) قوة الضمير (1-1) وظائف الضمير
الحكم يستلزم محكمة، والمحكمة في الأدبيات قائمة في نفس الإنسان، في عقليته، في شخصيته العاقلة؛ وهي الضمير. والضمير - بواسع معناه - مشترع وقاض ومنفذ، ويمكن أن يكون زاجرا وشاكيا وشاهدا أيضا.
فالضمير «مشترع» حين يميز بين الصواب والخطأ، والحق والباطل، فيقول: هذا الفعل صواب أو حق، أو خطأ أو باطل، ويكون قاضيا حين يأمر بالفعل الصائب والحق، وينهى عن الفعل الخاطئ أو الباطل، ويكون منفذا حين يسر النفس بنتيجة الفعل الحسن أو الحق، أو يؤلمها بنتيجته السيئة أو الباطلة، ويكون زاجرا حين يقدم الإنسان على الفعل الباطل أو السيئ فيردعه الضمير عن إتيان الفعل، ويتهدده بألم النفس، أو حين يتردد الإنسان في العمل الصالح فيأمره الضمير أن يفعل وإلا تهدده، ويكون شاكيا أو شاهدا بعد وقوع الفعل فيقول له: «لقد فعلت فلا تنكر.» ويعاقبه بالتبكيت والتأنيب.
ولكن هل يكون الضمير مصيبا دائما في قضائه؟ هناك عوامل تعمل في اشتراع الضمير، وفي حكمه: فللعواطف والانفعالات تأثير على الضمير، وللوجدان أو التعقل شأن كبير، وللشرائع والعادات فعل فيه. وهناك مبادئ ونظريات متباينة متضاربة تلعب في الضمير؛ فالضمير إذن عرضة للخطأ والصواب في الحكم، ولذلك نبحث فيما يلي في الأركان التي يستند عليها الضمير في الحكم لكي يمكن أن يكون حكمه صائبا إذا استوفاها. (1-2) المقاصد الحسنة
أول ما يتجلى للعقل - في أي أمر أو فعل - أن للإنسان حقا طبيعيا في أن يرمي بفعله إلى غاية حميدة له؛ لأنه محتاج إليها لحفظ كيانه، فإذا استوفاها سرت نفسه، ولكن تقوم لديه اعتراضات مختلفة؛ أهمها أولا: هل يمس هذا الأمر مصلحة غيره؟ هل تحتك غايته بغاية غيره الحميدة فتنقضها أو تشوهها؟ (2) هل تثلم غايته هذه مصلحة الجماعة أو تنقضها أو تعرقلها؟ (3) هل هذه الغاية التي يرمي إليها هي أفضل غاية حميدة ممكنة له، أو هل هي حميدة حقيقية؟ أو هي الغاية القصوى الحميدة، أم هي مفضية إلى غاية بعدها سيئة؟ (1-3) الضمير تحت تأثير الأخلاق والسجايا
فإذا تدخلت العواطف والانفعالات في الأمر فقد يلتبس الأمر على الضمير، ولا سيما إذا كانت العاطفة شريفة وحسنة. هب أنه التجأ إليك هارب فأخبأته، ثم جاءك مطاردوه وسألوك عنه فأنكرت وجوده عندك إشفاقا عليه، فهل يبرر ضميرك هذا الكذب؟ إذا كان مطاردوه أعداء له فقد يقول ضميرك: «لا بأس من الكذب؛ فقد خلصت حياته بهذه الكذبة.» وإذا كان مطاردوه شرطة يبتغون القبض عليه للمحاكمة، فقد خلصته ولكنك أثمت للعدل، فأيهما هنا أحق في ظنك: إخلاص حياته أو تسليمه للقضاء العادل؟ هنا تدخل العاطفة أفسد على الضمير حكمه.
إذن لكي تكون العواطف والأخلاق على العموم ذات شأن بالتدخل في أحكام الضمير يجب أن تكون مهذبة راقية إلى جهة المثل الأعلى، بحيث يمكن أن تقف عند حد الصواب فلا تطمس التعقل. نعم، إن الأخلاق الشريفة لا ترمي إلا إلى الغايات الشريفة، ولكنها قد تضل عن أشرف الغايات أو أفضلها؛ ولذلك يجب أن يصحبها التعقل دائما لكي يميز بين أفضل الغايات ويرشدها إليها.
الأم التي ترضع طفلها الذي نهاها الطبيب عن إرضاعه تغلبت عليها عاطفتها فابتغت الغاية السارة القريبة؛ وهي إشباع طفلها الذي يتألم من الجوع، حسب ظنها، وتعامت عن الغاية القصوى؛ وهي شفاء ولدها. فضميرها ارتاح حين أرضعته، ولكنه أقلقها حين استفحل مرض ابنها، فضميرها في أول الأمر لم يحكم في أي الغايتين أفضل؛ إشباع الابن وإسكاته عن البكاء الشديد أم شفاؤه؟ لأن العاطفة تغلبت عليها.
للعاطفة فضل في التدخل إذا كان التعقل يوافق عليها ويقول لها: سيري في سبيلك؛ فالذي تدفعه المروءة لإنقاذ آخر من الخطر تكون مروءته قد لبت دعوة ضميره للفعل. والضمير يثيبها مسرة نفس بعد نجاح الفعل. (1-4) الضمير بإزاء الشرائع
الضمير ضعيف بإزاء الشرائع الدينية والمدنية؛ ولذلك تكون وظيفته القضاء فقط، فيقول لك: هذا موافق للشريعة فافعله، أو مخالف لها فلا تفعله، وإن فعلت فدونك عقاب الدنيا أو عقاب الآخرة، وإن كنت تسلم من عقاب الدنيا ولا تخاف عقاب الآخرة، أو لا تعتقد به؛ فيبقى ضميرك مؤنبا لك، لا لأنك خالفت الشريعة فقط، بل لأن مخالفتها قد أضرت مصلحة غيرك أو مصلحة الجماعة؛ وذلك لأن الشرائع على الغالب ترمي إلى إقامة العدل والإنصاف بين الأفراد.
صفحه نامشخص