وروت له ما جرى، فبهت مما سمع، وتأثر بما علم، وأقبل عليها معانقا راضيا.
وقد ختم بوكاشيو القصة بهذه الكلمات: «ومن ذلك اليوم أحبها وكرمها تكريم زوج لزوجة عزيزة وفية ...».
براعة شكسبير في صياغة القصة والزيادة عليها
ويقول الثقات: إن القصة، كما بدت في ترجمة «وليم بينتر»، لم تكن بارعة في التأدية، ولا رائعة من حيث الأسلوب، ولكن شكسبير التزم حوادثها من حيث هي، ومضى يتوسع في مشاهدها، ويدخل عليها أشخاصا من براعة ابتكاره، وحسن تأديته، وجمال شعره، وروعة حكمته: كشخصية «الكونتة» أم برترام، والأمير الشيخ «لافيه» الثرثار، و«لاهاش» المضحك المهذار، و«بارولس» الجبان الكذاب. فكانت هذه الزيادات التي «طعم» بها شكسبير القصة، تطعيم البستاني الثمار والعيدان والأزهار، أحلى شخصياتها، وأعذب مشاهدها، وأبدع أجزائها المليئة بالحكمة والكلمات الجوامع التي ذهبت مذهب الأمثال.
وقد وضع الشاعر هذه القصة، فيما يقول الرواة، خلال الفترة بين عامي 1958و1608، وهي الفترة التي دخلت فيها عبقريته دور النضوج، وأخرج خلالها طائفة من خيرة رواياته، وروائع آياته، وأكبر الظن أنه كان يريد بها أن تكون أختا لقصة «خاب معي العشاق»، حتى لقد سماها في بداية الأمر: «أفلح معي العشاق»، وإن كانت هذه أرفع من تلك إنتاجا، وأسمى مرتبة، ولا يدري أحد ما الذي حمله فيما بعد على تغيير عنوانها، وإن كان المرجح أنه وجد في عنوانها الحالي مثلا سائرا في أيامه، فاعتقد أنه أرعى للأنظار وأجلب للشهرة، فاختاره.
وقد رأيناه يجعل المحور الجدي في هذه الرواية «الفكهة»، يدور حول «هيلين» التي كرهها زوجها من ساعة قرانه بها، ترفعا عنها، وتساميا بمكانه الرفيع عن مكانتها، فاحتملت مرارة الخيبة. وما زالت بلطف حيلتها، وفضل ذكائها وفطنتها، حتى استعادته في النهاية، فكانت العبرة بالخواتيم كما آثرنا أن ندعو القصة بهذا العنوان.
وقد أراد شكسبير في تصويره لشخصية هيلين على هذا النحو أن يدلل على أن حب المرأة وصبرها ينتصران في النهاية على سوء استغلال الرجل لقوته وسلطانه. وإن شهدنا قصصا أخرى لا عداد لها، تذهب غير هذا المذهب، فتصور المرأة في صورة الماكرة، الخداعة، الخلية من الثبات والصبر والوفاء.
وكان خيرا لشكسبير أن ينسب ذلك الحوار الطويل الذي دار بين «بارولس» في الفصل الأول وبين هيلين عن «العذرة» واستمساك العذارى بعفافهن، وترددهن في أمر الزواج، إلى شخصية أخرى غير ذلك «الماجن» الكذوب الدعي. ولكنه مع هذا ضمنه كلاما بديعا، ومجونا بارعا، وفلسفة فكهة، ترضي السامعين والقارئين؛ وإن رأى بعض النقاد أنه كان أولى بحذف المشهد من الرواية بجملته.
أما شخصية الأم - وهي الكونتة العجوز - فقد أجاد الشاعر في رسمها أبلغ الإجادة، وقد رأيناه في أكثر من قصة يضفي على الأمهات وأمثالهن لونا من الوقار يأخذ بالألباب، ولا يجعل الفتنة والإعجاب وقفا على الغواني والشواب الحسان. وإن نصائح هذه الأم الرءوم لابنها قبل انتقاله إلى البلاط، لهي - على إيجازها - أدنى من حيث الحكمة والروعة إلى حديث الحكيم بولونيوس مع «لايرت» في قصة «هملت».
ويبدو الملك في روايتنا هذه مع مرضه فيلسوفا، صادق النظرة؛ فإن الحوار الذي دار بينه وبين الشاب «برترام» بسبيل اعتزازه برفعة المنبت، وعراقة المحتد، قطعة ملأى بالقوة وأصالة الرأي.
صفحه نامشخص