تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول): مع فصل سيرة ذاتية بقلم تشارلز داروين
تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول): مع فصل سيرة ذاتية بقلم تشارلز داروين
ژانرها
لو نظر أي شخص إلى أدواته وغيرها من الأغراض المتناثرة على الطاولة، فإنه كان ليندهش من البساطة والارتجال والغرابة.
على جانبه اليمين، كانت توجد بعض الرفوف مع عدد من النثريات، والأكواب والصحون وصناديق البسكويت المعدنية لاستنبات البذور، وبطاقات من الزنك وصحون مليئة بالرمل وغير ذلك. وبالنظر إلى ما كان أبي عليه من تنظيم ومنهجية في الأمور الأساسية، فإنه من الغريب أن نجد أنه قد تحمل وجود العديد من الأشياء المستعملة قبل ذلك؛ فبدلا من الحصول على صندوق مصنوع على شكل محدد، ومصبوغ باللون الأسود من الداخل، فإنه كان يبحث عن شيء مشابه لما كان يريده ويصبغه بالأسود من الداخل باستخدام دهان الأحذية. ولم يكن يهتم بالحصول على أغطية زجاجية مصنوعة بشكل خاص لأوعية استنبات البذور، وإنما كان يستخدم قطعا مكسورة ذات أشكال مختلفة، وأحيانا كان يوجد بها زاوية ضيقة تبرز بلا جدوى من أحد الجانبين. بالرغم من ذلك، فإن معظم التجارب التي كان يجريها، كانت من النوع البسيط ولم تكن تستدعي أغراضا غاية في الإتقان. وأعتقد أن عادته في هذا الصدد كانت تنبع بدرجة كبيرة من رغبته في حفظ قواه وعدم إهدارها على أمور غير ضرورية.
ويمكننا أن نذكر هنا شيئا عن طريقته في تمييز الأغراض. إذا كان لديه عدد من الأغراض التي يرغب في التمييز بينها، مثل أوراق الشجر والزهور وغير ذلك، فإنه كان يربط حول كل منها لونا مختلفا من الخيوط. وكان يستخدم هذه الطريقة بالتحديد حين يرغب في التمييز بين فئتين فقط من الأشياء؛ ولهذا ففي حالة التلقيح المتبادل والتلقيح الذاتي للزهور، كان يميز إحدى المجموعتين بخيط أسود والأخرى بخيط أبيض يربطه حول ساق الزهرة. أتذكر جيدا منظر مجموعتين من أغلفة البذور، وقد جمعهما في انتظار قياس وزنهما وعد محتوياتهما وما إلى ذلك، وقد استخدم قطعتين من الخيط الأبيض والأسود للتمييز بين الأواني التي ستوضعان فيها. وعندما كان عليه أن يقارن بين مجموعتين من الشتلات قد زرعتا في الإناء نفسه، فإنه كان يفصل بينهما بحاجز من صحائف الزنك، مع وضع بطاقة الزنك التي توضح التفاصيل الضرورية عن التجربة على جانب محدد دائما؛ وذلك حتى يتسنى له أن يعرف على الفور أيهما يمثل «التلقيح المتبادل» وأيهما يمثل «التلقيح الذاتي»، دون حاجة إلى قراءة البطاقة.
لقد تجلى على نحو واضح حبه لكل تجربة ورغبته المتلهفة على ألا يهدر ثمارها، في تجارب التلقيح المتبادل التي كان يقوم بها، وذلك من خلال حرصه الدقيق على ألا يحدث أي خلط في وضع أغلفة البذور على الأواني الخاطئة، وما شابه ذلك. ويمكنني أن أتذكر منظره وهو يحصي البذور تحت المجهر البسيط بانتباه شديد لا تستدعيه في العادة مهمة آلية مثل العد. أعتقد أنه كان يتصور كل بذرة على أنها عفريت صغير يحاول الإفلات منه إلى الكومة الخاطئة، أو الهرب منه تماما، وقد كان ذلك يضفي على العمل الإثارة التي تتسم بها الألعاب. كان يثق بالآلات ثقة عظيمة، ولا أظن أنه كان ليفكر في أن يرتاب في دقة مقياس أو كوب للقياس أو ما شابه ذلك. وقد اندهش حين اكتشف أن أحد الميكرومترات يختلف في قياسه عن الآخر. لم يكن يحتاج إلى الدقة العالية في معظم قياساته، ولم يمتلك أدوات قياس جيدة: كان يمتلك مسطرة قدمية قديمة طولها ثلاثة أقدام، وقد كانت ملكية عامة للمنزل بأكمله، وكنا نقترضها باستمرار لأنها هي الوحيدة التي كنا نعرف يقينا أنها موجودة في مكانها؛ هذا بالطبع إن لم يكن آخر من اقترضها قد نسي أن يضعها مجددا في مكانها. ولقياس ارتفاع النباتات، فإنه كان يستخدم قضيبا خشبيا طوله سبعة أقدام، كان قد استعان بنجار القرية في تدريجه. ثم بدأ بعد ذلك في استخدام المقاييس الورقية التي تتدرج إلى ملليمترات. وبالنسبة إلى الأغراض الصغيرة، فقد كان يستخدم الفرجار ومنقلة عاجية. وقد كان من سماته أنه يتحمل عناء كبيرا في اتخاذ قياساته باستخدام أدواته التقريبية بعض الشيء. ومن الأمثلة البسيطة على ثقته في المراجع أنه كان يحسب «البوصة على أساس الملليمترات»، وذلك من كتاب قديم، والذي قد اتضح عدم دقته. وكان لديه ميزان كيميائي يعود تاريخه إلى عهد عمله في الكيمياء مع أخيه إيرازموس. وبالنسبة إلى قياسات السعة، فقد كان يأخذها باستخدام وعاء زجاجي صيدلاني للقياس، وما زلت أتذكر جيدا مظهره الخشن وتدريجه السيئ، وأتذكر أيضا ما كان يوليه أبي من عناية كبيرة ليصبح خط السائل على التدريج. إنني لا أقصد بهذا الحديث عن أدواته أن أيا من تجاربه قد عانت من نقصان في دقة القياسات، وإنما أقدم به مثالا على وسائله البسيطة وثقته في الآخرين؛ ثقته على الأقل في صانعي الأدوات، والتي كانت صناعتهم بأكملها لغزا بالنسبة له.
ويحضرني الآن عدد من سماته الذهنية، والتي تتعلق بصفة خاصة بطريقته في العمل. هناك سمة ذهنية يبدو أنها كانت ذات فائدة عظيمة ومميزة في قيادته إلى التوصل للاكتشافات، والتي تتمثل في قدرته على ملاحظة الاستثناءات على الدوام، وعدم إغفالها على الإطلاق. إن الجميع يلاحظون وجود الاستثناءات حين تكون واضحة للغاية ومتكررة، لكنه كان يتمتع بحدس خاص للانتباه إلى وجود أي استثناء. إن أي نقطة تبدو بسيطة وغير مرتبطة بالعمل الحالي، تغيب عن انتباه العديد من الرجال بشكل غير واع تقريبا، ويعزون السبب فيها إلى تفسير غير محكم، والذي هو في واقع الأمر ليس تفسيرا على الإطلاق، لكن مثل هذه الأمور، هي ما كان يتوقف عندها، ويبدأ بالعمل منها. وبطريقة ما، يمكننا أن نرى أنه لا شيء مميز في هذه العملية؛ فهي الطريقة التي أدت إلى التوصل للعديد من الاكتشافات، وإنما أذكرها فقط لأنني بينما كنت أشاهده وهو يعمل، فإنني قد تأثرت كثيرا بقيمة هذه القدرة للعالم التجريبي.
ومن السمات الأخرى التي اتضحت في عمله التجريبي، هي قدرته على المثابرة في العمل على موضوع محدد، وقد كان يعتذر عن صبره قائلا إنه لا يستطيع احتمال الهزيمة، كما لو كان ذلك من نقاط الضعف. وكثيرا ما كان يستشهد بالقول: «إن الإصرار هو السبيل إلى النجاح»، وأعتقد أن الإصرار يعبر عن إطاره الذهني بنحو أفضل من المثابرة؛ فالمثابرة لا تكفي للتعبير عن رغبته الشديدة في إجبار الحقيقة على الإفصاح عن نفسها. وكثيرا ما كان يقول إنه من المهم للمرء أن يعرف النقطة الصحيحة التي يجب عندها التخلي عن أي بحث. وأعتقد أن ميله إلى تخطي هذه النقطة هو ما كان يجعله يعتذر عن مثابرته، وأضفى طابع الإصرار على عمله.
كثيرا ما كان يقول إنه لا يمكن للمرء أن يكون ملاحظا جيدا إن لم يكن منظرا نشيطا. ويعيدني ذلك إلى ما قلته عن موهبته في الانتباه إلى الاستثناءات؛ فكأنه كان مشحونا بقدرته على وضع النظريات، والتي كانت مهيأة للتدفق في أي اتجاه عند حدوث أي اضطراب بسيط؛ لذا فلم يكن لأي حقيقة مهما كانت صغيرة ألا تتسبب في تدفق فيض من النظريات، وبهذا تتضخم الحقيقة ويكون لها أهمية. وبهذه الطريقة فقد حدث تلقائيا أن تواردت على ذهنه العديد من النظريات التي يتعذر تعضيدها، لكن من حسن الحظ أن قدرته على النظر في الأفكار التي تطرأ على ذهنه وتدقيقها كانت تعادل ثراء خياله. لقد كان منصفا تجاه نظرياته ولم يدنها قبل أن يتحقق منها؛ ولهذا فقد كان مستعدا لاختبار ما قد يبدو لمعظم الناس على أنه لا يستحق الاختبار. وقد كان يدعو هذه المحاولات الجامحة باسم «تجارب الحمقى» وكان يستمتع بها للغاية. وكمثال على ذلك يمكنني أن أذكر أنه حين اكتشف الحساسية الشديدة للورقات الجنينية في النباتات من جنس الحساسة
Biophytum
تجاه اهتزازات الطاولة، تخيل أنها قد تكون قادرة على استقبال ذبذبات الصوت؛ ولهذا فقد طلب مني أن أعزف على زمخري بالقرب من إحداها. (ولا يعد ذلك مثالا على الاستفاضة في وضع النظريات فيما يتعلق بشيء بسيط، وإنما يعبر عن رغبته في اختبار أكثر الأفكار غير المحتملة.)
لقد كان حب التجريب قويا لديه للغاية، وإنني لأستطيع تذكر الطريقة التي كان يقول بها: «لن أهدأ حتى أخضع هذا للتجربة.» وكأنما كانت هناك قوة خارجية تدفعه إلى ذلك. وكان يستمتع بإجراء التجارب أكثر من استمتاعه بالعمل الذي لا ينطوي إلا على التسويغ المنطقي، وحين كان ينخرط في تأليف كتاب يتطلب تقديم الحجج وترتيب الحقائق، كان يشعر بأن العمل التجريبي سيكون بمنزلة استراحة أو عطلة؛ ولهذا، فحين كان يعمل على كتابه «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، في الفترة بين 1860 و1861، توصل إلى فهمه لتلقيح السحلبيات، وكان يرى نفسه متكاسلا إذ أولى هذا الأمر هذا القدر الكبير من الوقت. وإنه لأمر مثير أن ندرك أنه قد قام بجزء مهم للغاية من العمل البحثي، على سبيل تمضية الوقت، والاستراحة من عمل أكثر جدية. وتتضمن خطاباته إلى هوكر في هذه الفترة بعض العبارات مثل: «فليسامحني الله على تكاسلي؛ فأنا مهتم بهذا العمل على نحو سخيف.» ويتجلى استمتاعه الشديد باستيعاب أساليب التكيف للتلقيح بقوة في هذه الخطابات. إنه يتحدث في أحد الخطابات عن نيته في العمل على جنس الندية على سبيل الاستراحة من كتابة عمله «نشأة الإنسان» وقد وصف في عمله «ذكريات» شعوره الكبير بالرضا بعد أن توصل إلى حل مسألة تفاوت أطوال الأعضاء الجنسية في الزهور. وقد سمعته يذكر أنه قد استمتع بالطبيعة الجيولوجية لأمريكا الجنوبية أكثر من أي شيء آخر. ربما يكون ذلك السرور الذي كان يستمده من العمل الذي يستدعي الملاحظة الدقيقة هو ما جعله يقدر أي ثناء يتلقاه على قواه في الملاحظة أكثر من أي احتفاء بملكاته الأخرى.
صفحه نامشخص