مقدمة
موت الأميرة شماء بنجد واعتلاء الجازية مكانها في قيادة بني هلال
غيرة الجازية من حب العالية وأبي زيد
حب أبي زيد للأميرة العالية بنت جابر
جمع المشورة للهجرة والحرب
مأساة عزيزة وسعدى
تنكر «أبو زيد» والفرسان الثلاثة
سكك أبي زيد
الزناتي يفاجئ العشاق الأربعة
اقبضوا على الجميع
صفحه نامشخص
عودة أبي زيد إلى نجد والرحيل والحرب
الزناتي يجمع مجلس حربه لمحاربة الهلالية
حروب الهلاليين على أول بلاد العرب وحصار تونس
النساء يحلقن شعورهن استنجادا بدياب
دياب يقتل الزناتي ويفتح تونس
أسر دياب لسعدى ومأساتها
العزيزة ترعى أبناء الشهداء
مقدمة
موت الأميرة شماء بنجد واعتلاء الجازية مكانها في قيادة بني هلال
غيرة الجازية من حب العالية وأبي زيد
صفحه نامشخص
حب أبي زيد للأميرة العالية بنت جابر
جمع المشورة للهجرة والحرب
مأساة عزيزة وسعدى
تنكر «أبو زيد» والفرسان الثلاثة
سكك أبي زيد
الزناتي يفاجئ العشاق الأربعة
اقبضوا على الجميع
عودة أبي زيد إلى نجد والرحيل والحرب
الزناتي يجمع مجلس حربه لمحاربة الهلالية
حروب الهلاليين على أول بلاد العرب وحصار تونس
صفحه نامشخص
النساء يحلقن شعورهن استنجادا بدياب
دياب يقتل الزناتي ويفتح تونس
أسر دياب لسعدى ومأساتها
العزيزة ترعى أبناء الشهداء
عزيزة ويونس
عزيزة ويونس
تأليف
شوقي عبد الحكيم
مقدمة
عزيزة ويونس وريادة الهلالية
صفحه نامشخص
القصة الملحمية الكبرى عزيزة ويونس التي اعتدنا سماعها تروى بمختلف وسائل التعبير الشعبي، استقلت أصلا عن الجسم الأساسي لسيرة بني هلال. وهي تؤرخ لعرب نجد المرية، وهجراتهم لتعريب الشمال الأفريقي والغرب، فقد بدءوا من ربوع الجزيرة العربية شمالا وجنوبا مرورا بما بين الرافدين والشام وفلسطين ومصر وليبيا، إلى أن وصل زحفهم إلى تونس وقلاعها الأربع عشرة، فضربوا حصارهم حول قرطاج الذي امتد إلى سنوات سبع، بما يذكرنا بحصار الإغريق لطروادة الذي استغرق سنوات تسعا، وكلا الحصارين تذرع بحجة المطالبة بالإفراج عن الأسرى، وكان الإغريق قد طالبوا بالإفراج عن «هيلين» زوجة «مينلاوس».
أما الأمراء النجديون الثلاثة وهم يونس ومرعي ويحيى فلهم قصة أخرى، إنهم أبناء السلطان حسن بن سرحان الهلالي سلطان الهلالية الغزاة.
تحايل فرسان الهلالية الثلاثة يونس ومرعي ويحيى، حين ريادتهم المبكرة، كطلائع لتحالف الزحف الهلالي، لاستكشاف تونس وربوعها وتخومها أو قلاعها الأربع عشرة، بصحبة خالهم أبي زيد الهلالي سلامة، واضطرارهم لبيع عقد ثمين من غالي الجوهر توارثوه عن جدتهم الأميرة الأم «شماء»، التي كان لها ثلث المشورة في الحرب وقيادة المهاجرين خلال الثلث الأول من ثلاثية السيرة الهلالية.
إلى أن وصلوا قصر الأميرة «عزيزة» ابنة سلطان تونس «معبد بن باديس» وهم متنكرون في هيئة شعراء جوالين، عن طريق دلال ظل يفاخر بدهاء يونس وفروسيته وقبائله تحت شباك قصر العزيزة:
آه يا ستي لو شفتيه
لو شفتي طولو مع معانيه
تفوتي قصرك باللي فيه
واسمك الغالي تنسيه.
فكان أن تحركت لواعج عزيزة نحو يونس، حين وقعت عيناها عليه للمرة الأولى منبهرة.
وقفت عزيزة في ريح القصر ورحاته وقالت:
صفحه نامشخص
يا دلال صاحب العقد روح هاته
يا بخت من حدى بوصلك يا يونس في السنة مرة
يسود شعره وتحلى عيشته المرة
ولما قالوا لعزيزة دا يونس في الشجر برا
نزلت تهز اليلك وتقولوه كنت فين سلامات
ومن ابتلا بك يا يونس طق وانسلى مات
خدته على الصدر جوا القصر ورحاته.
أسر أبي زيد والأمراء الثلاثة
إلى أن وقع الأمراء الثلاثة في أسر حاكم تونس، معبد بن باديس الذي من نسله انحدر المعز بن باديس،
1 - والزناتي خليفة، ووزير داخليتها العلام بن هضيبة، ووقعت قلوب الفرسان الثلاثة في أسر أكثر عذابا والتهابا هو قيوم الغرام، فقد أحب يونس عزيزة، ومرعي سعدى - ابنة الزناتي - أما يحيى فقد أحب الحسناء مي الهلالية.
صفحه نامشخص
وامتد أسرهم ذاك لسنوات سبع، لم ينسوا فيها يوما موطنهم نجدا، فتحدثوا بجمال نجد وحرية نجد، كما عبر مرعي عن هذا الحب ضارب الجذور في روحه عبر مناجاته لمعشوقته سعدى ابنة الزناتي:
يا سعدى نجد العريضة مريه
ربيت بها أهل وكل جدودي
بلدي ولو جارت عليه مريه
وأهلي ولو شحت عليا تجود.
وهكذا نجحت الفتيات الثلاث - عزيزة وسعدى ومي - في الإبقاء على محبيهم الثلاثة، يونس ومرعي ويحيى ، في أسر السجن الملحق بقصر عزيزة الأسطوري الفاخر، وإقناع حكام تونس وفارسها خليفة الزناتي، بإطلاق سراح خالهم أو عبدهم المسن، أبي زيد الهلالي، ليعود إلى نجد والعودة بفديتهم، فما كان منه إلا العودة بجحافل جيوش بني هلال التي أوقعت الحصار الشهير لبوابات تونس السبع، لحين اقتحامها وقتل دياب بن غانم لخليفة الزناتي، وفتح المغرب العربي عامة حتى الأندلس التي حكمها أبو زيد الهلالي.
الهلالية بين التاريخ والفولكلور
ومن المفيد هنا التعرض للبناء الرئيسي الذي عنه استقلت «بالادا» أو «بالادة» حسب تسمية العرب الكلاسيكيين لقصص الحرب والحب الشعرية مثل «عزيزة ويونس» هذه، فمن المفيد التعرف بإلمامة سريعة بهذه السيرة السياسية الكبرى - الهلالية - وموقعها ما بين التاريخ الفعلي والفولكلور.
وتلقي مخطوطة مكتبة المتحف البريطاني الرئيسية للسيرة بالمزيد من الضوء على متابعها وأحداثها الهائلة التي شملت جغرافية الشرق الأوسط عامة عبر حلقاتها الرئيسية الثلاث، التي هي في عداد ثلاث سير متتابعة، أولها يضرب في العصور التي تعارفنا عليها بالجاهلية السابقة لظهور الإسلام، والتي قد تصل بنا إلى بضعة قرون.
إذ تغطي الحلقة الأولى للسيرة بدء تواجد العرب الهلاليين التاريخي في الجزيرة العربية، وهجرتهم الأولى إلى الأردن وفلسطين أو بلاد السرو وعبادة.
صفحه نامشخص
إلى أن تتوقف بنا الأحداث مع بدء ظهور الإسلام، وكيف أن هلال بن عامر وفد على النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
على رأس قومه أو قبائله المتحالفة، ولعب أولئك الهلاليون دورا مهما في ترسيخ أركان الدين الجديد، حتى إن النبي أسكنه وقومه وادي العباس.
وأبدت فيما بعد فروسية وشجاعة الهلالية في حيل «المنذر» أبو العرب المناذرة، وكيف تعرف على الأمير «مهذب»، وتزوج بابنته «هذباء»، لما لم يرزق منها بطفل فقرر الزواج بأخرى.
ثم رحل إلى بلاد السرو وعبادة، أي الأردن وفلسطين، حيث تزوج بابنة الملك الصالح واسمها «عذباء» التي خلف منها «جبير»، بينما وضعت زوجته الأولى «جابرا».
وينشب الصراع بين الزوجتين طويلا، فكل منهما تريد المنذر لها وحدها.
وينتهي الأمر بطلاق عذباء ابنة الملك الصالح ورحيلها هي وابنها «جبير» إلى نجد .
المهم هنا أنه من نسل جابر وجبير انحدرت إلينا بطون بني هلال ونسائهم الذين قاموا بالأدوار الهامة في مختلف الأحداث الكبرى التي تضمنتها الحلقة الأولى من حروب وهجرات قارية على طول العالم القديم في أواسط آسيا والأناضول حتى تخوم الصين.
فجابر ولد له عامر وتامر وهشام وحازم، ومن نسل هؤلاء انحدر «رزق» والد أبي زيد، وسرحان والد السلطان حسن بن سرحان، وأبناؤه الفرسان الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى.
أما جبير - رأس التحالف القحطاني - لعرب اليمن والجنوب العربي، فولد له «رباح» وحنظل والنعمان، ومن رباح جاء دياب والد رأس تحالف عرب الجنوب دياب بن غانم، كما أن من نسل رباح انحدر الأمير زيدان الذي قتله الزناتي خليفة على بوابات قرطاج.
صفحه نامشخص
وعقب جيل جابر وجبير يرد خبر زواج «رزق» من «خضراء» التي أنجب منها «شيحاء» وفتى يدعى «بركات».
مولد أبي زيد الهلالي
وجاء الغلام - بركات - أسود اللون كعنترة، لذلك اتهمت الأم خضراء في عرضها، وانتهى الأمر برحيلها وابنها إلى بلاد الأمير «الزحلان» عدو بني هلال، فيكرم الأمير الأم ويعتني بابنها، ويوكل أمر تعليمه إلى معلم فكان يعلم بركات أبا زيد الهلالي العلوم والحرف واللغات والحيل والمكائد التي اشتهر بها وتفوق فيها:
ولسان عبراتي اليهود تنفعك
ولسان سريان تصير مشير.
وكذا الطب والكيمياء والرياضيات والفلك والجغرافيا والصباغة والمعادن:
والطب أيضا دانيال أعلمك
وعلم الحساب وكل علم جبير
وأعلمك علم الصباغات كلها
تصبغ لروحك ما تريد يا أمير.
صفحه نامشخص
ويحدث أن يهاجم الهلاليون بلاد الزحلان فيتصدى لهم بركات ويأخذ والده أسيرا، ويعترف له الهلاليون بالشجاعة ويطلقون عليه اسم «سلامة»، ويعجب به الزحلان فيزوجه بابنته «غصن البان»، وتعلو مكانته في ربوع الهلالية لمهابته وذكائه ومهاراته المتعددة فيطلقون عليه «أبا زيد الهلالي سلامة».
ثم تنتقل بنا السيرة إلى جبل سرحان، وكيف تعرف بالأميرة «شماء» ووقوعهما في أسر الإفرنج ونجاتهما بحيلة من تلك الحيل التي اشتهر بها الهلالية وفارسهم أبو زيد.
الأميرة شماء
وكان للأميرة شماء «ثلث المشورة»، ولها القيادة في الحرب والسلم والهجرة والترحال والمعاهدات.
فالسيرة الهلالية تفرط إلى أقصى قدر بالنسبة إلى ظاهرة شخصياتها الأنثوية، مثل تلك الأميرة «الكاهنة» شماء:
انظر لشامتها
هذي علامتها
انظر لقامتها
شبه الردينية
الشعر مثل الليل
صفحه نامشخص
كأنه سباسب خليل
والوجه مثل السيل
بعيون هندية
ومن نسل شماء انحدرت الأميرة «الجازية» وأخوها السلطان حسن بن سرحان أمير نجد وقائد التحالف الهلالي، وكان محبا لوالدته:
شما تلفتيني
بحبك ضنيتيني
قومي واسقيني
من فوق شبرية
بالليل أنا أزورك
وها الوقت دا شويه.
صفحه نامشخص
ولشماء مآثرها الخارقة، خلال حرب ومنازعات بني هلال في الهند وسرنديب والأناضول واليمن والجنوب العربي عامة، فهي تتشابه مع رموز وإلهات الحرب الأنثيات في الميثولوجيات القديمة، وأبرزهن «أثينا» في قيادتها للتحالف القبلي اليوناني - الإغريقي - في حروب وحصار طروادة.
وهو ما توارثته «الجازية» فيما سيلي من أحداث عزيزة ويونس، والريادة حول فتوحات بني هلال في الشمال وفلسطين ومصر وليبيا، لحين حصار تونس والمغرب العربي للمطالبة بالإفراج عن أسراهم الأمراء، أو الفرسان الثلاثة يونس ومرعي ويحيى.
وهنا نكون قد وصلنا إلى الحلقة الثانية لسيرة الهلالية، التي تبدأ أحداثها بمرحلة السلطان حسن وأبي زيد الهلالي من بلاد السرو وعبادة بوادي الأردن وفلسطين، حيث تعيش قبائل بني زغبة المنحدرة من ذرية جبير إلى أن تصل بنا إلى نسب بطل التحالف اليمني والجنوب العربي عامة الأمير غانم وابنه دياب.
الهلاليون يحاربون يهود خيبر
أما السبب الدافع لتلك الهجرة من ربوع وادي الأردن ومرج بني عامر بفلسطين، فلم يكن سوى السيول والجفاف.
واللافت للنظر هنا أنهم عبر هجراتهم الجماعية إلى سهول نجد المرية يخوضون أولى حروبهم مع يهود بني خيبر، وهي حروب طويلة مضنية تستغرق وقائعها الجانب الأكبر من الحلقة الثانية للهلالية، لحين تحقيق انتصاراتهم على اليهود الخيبريين الذين كانوا في بعض صورهم التاريخية يتصدون لمحاربة الأكاسرة الفرس.
ففي هذا الجزء أو الحلقة الثانية للهلالية وسيرتهم، تستقر تحالفاتهم من عرب نجديين وحجازيين قيسيين أو معديين وجنوبيين قحطانيين، وتجيء هذه التحالفات تحت شارة أو راية الهلال، آخذين بالتقويم القمري الهجري فيما بعد.
ويقدم السلطان حسن على الزواج من «نوفلة » أخت دياب بن غانم، ثم يقطع عهده لدياب هذا قائد ورأس التحالف اليمني بتقديمه أخته «نور بارق» أو الجازية له للزواج منها، والتي سترث أمها السالفة شماء قيادتها لحروب وهجرات بني هلال حتى ليصبح لها ثلث المشورة.
تغريبة بني هلال
أما تغريبة بني هلال أو الحلقة الثالثة، فتبدأ بإرسال أبي زيد الهلالي ومعه الأمراء الشبان الثلاثة يونس ومرعي ويحيى لزيارة المغرب العربي بشمال أفريقيا وخاصة تونس الخضراء، حيث يقعون في أسر فارسها خليفة الزناتي ووزير داخليتها المتسلط العلام، لحين قدوم الفيالق الهلالية لحصار تونس وتخليصهم من الأسر.
صفحه نامشخص
وهذه الفترة من فترات التاريخ الإسلامي صحيحة، بالإضافة إلى صحة دور بني هلال وحروبهم الجاهلية السابقة على الإسلام، وكيف قاموا بالنصيب الأعظم في سبيل تعريب البلدان المتاخمة للجزيرة العربية جنسا وثقافة.
فابن الأثير يحدثنا في تاريخه - الكامل - بأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تزوج في العام الرابع من «زينب بنت خزيمة» أم المساكين، وهي من بني هلال. ثم يذكرهم مرة بصدد الحديث عن غزوة هوازن، ومرات كثيرة أخرى في مناسبات مختلفة.
أما عن خروجهم إلى شمال أفريقيا، فقد ذكره أكثر من واحد من المؤرخين، مثل ابن خلدون حيث ورد بصفحة 62، 63 من الجزء الرابع من تاريخه ما نصه:
كان المعز بن باديس قد نقض معاهدة العبيديين بأفريقيا، وأيد القائم العباسي ضد المستنصر العلوي سنة أربعين وأربعمائة، فكتب إليه المستنصر يتهدده ببني هلال وبأسهم.
أما عن السبب الدافع إلى تغريبة بني هلال، فمرجعه انقطاع المطر وحلول الجفاف بنجد والجزيرة العربية عامة، حيث لا خلاص سوى الهجرة والترحال وفرض التعريب، وهنا يستقر الرأي على ضرورة استكشاف المسالك إلى البلدان المتاخمة للجزيرة، فيضطلع فارس التحالف الشمالي أبو زيد الهلالي وبصحبته الأمراء الثلاثة باستكشاف الطريق إلى تونس، لحين وقوعهم في أسر زناتي تونس، وإطلاق سراح أبي زيد ليعود إلى نجد، لكنه بدلا من إحضار فدية الأمراء الأسرى الثلاثة فإنه يجهز الجيش لغزو تونس والمغرب العربي حتى الأندلس، وذلك بعد أن تم لهم فتح المشرق العربي عامة، وفرض نفوذهم على معظم كياناته.
وهكذا ضرب الهلاليون حصارهم على تونس - قرطاج - بحجة المطالبة بالإفراج عن أسراهم الفتيان الثلاثة: يونس ومرعي ويحيى.
وعلى بوابات تونس السبع تدور المعارك الطاحنة لسنوات وهي معارك استشرق فيها خليفة الزناتي بقادة العلويين وحلفائهم وأمرائهم منازلة وتقتيلا:
ثمانين أميرا من هلال وعامر
صفحه نامشخص
دعاهم أبو سعدى برمح كعيب
أخرب أبو سعدى جميع مساكننا
وما عاد لنا سامح ومجيب
دائر كما الدولاب ولد غانم
ينادي دياب من لقانا هريب.
إلى أن استنجد السلطان حسن بن سرحان وأبو زيد الهلالي بدياب بن غانم، الذي نازل الزناتي إلى أن أصابه برمحه «بين عينيه» وفتح تونس واعتلى عرش الزناتي وأوقع السبي بابنته «سعدى»، وهي التي ساعدت - مع «عزيزة» - الهلاليين إلى أن تحقق لهم فتح تونس والمغرب العربي حتى الأندلس التي حكمها أبو زيد الهلالي.
شوقي عبد الحكيم
موت الأميرة شماء بنجد واعتلاء الجازية مكانها في قيادة بني هلال
أخيرا أسلمت الأميرة شماء الروح، ولا يعرف أحد على وجه الدقة في كل أنحاء «نجد المرية» كيف حدث هذا، وهل يمكن فعلا أن يحدث على هذا النحو الفاجع الصادم؟ أي أن تسبل الأمير شماء أميرة بني هلال عينيها الدعجاوتين، وكما لو كانت تستسلم للنعاس المصاحب لخدر النوم، لتلفظ أنفاسها الأخيرة وتموت مثلها مثل خلق الله الآخرين!
أحقا ما يحدث ويحمله هواء ذاك الصباح الرطب من سهل إلى ما يجاوره ومن مضرب إلى آخر ومن مرج إلى نظيره، على طول رحاب نجد، فتتداوله الألسن والحلوق الجافة غير المصدقة، بينما تسيل العيون دموعها مدرارا وهي تتحرك في الوجوه التي هدها النبأ المفاجئ، فاندفعت باتجاه مضاربها كالموج الهادر غير مصدقة أو مدركة لما حط على نجد في ذلك اليوم، الذي لا بد ألا تسطع له شمس أبدا، وإن حدث وسطعت فلا بد أن يحرق سياط لهيبها كل أخضر ويابس دون رحمة؟!
صفحه نامشخص
أحقا ما يحدث أن تلفظ الأميرة الحكيمة المجاهدة التي عمت شهرتها الآفاق كلا من المشرق والمغرب أنفاسها؟! وهي التي رفعت رايات الهلاليين وبيارقهم خفاقة مشرقة من فوق هودجها المجلل بشارات المجد، بدءا من تخوم أسوار الصين مرورا بالهند وسرنديب والأناضول مشرقا، حتى مشارف المغرب الكبير والأندلس غربا، تنكس أمامها هامات أعتى الملوك والأباطرة والأكاسرة والأمراء، تواكب ذلك كله حكمة عميقة الجذور والغايات والمقاصد.
وكما لو أن هاجسا خفيا وحد بين جميع قبائل وبطون عرب بني هلال، وهم يتدافعون خارجين مروعين من بيوتهم ومضاربهم وقصورهم في ذلك الصباح المبكر، هذا الهاجس هو الخوف الباطني الذي لا يعرف له سبب، والذي كان ظاهرا تماما على جميع الوجوه كلما تلاقت جموعهم وجموعهن. - لم أنم البارحة. - أجل. - لم أذق للنوم طعما. - لحظة واحدة فقط. - غمضة عين.
صحيح أن الجميع كانوا على دراية بمدى ما حل على كاهل الأميرة الأم - شماء - منذ سنين قريبة من مرض عضال، أضنى أطباء نجد والشام والأندلس ويئس الجميع من إمكانية شفائها.
ولم يعد يسمع منها وهي مسجاة على فراشها سوى تمتمة. - آجال! أعمار تنقضي!
لكن من يمكن له أن يصدق ويعي من تلك الجموع الغاضبة الحانقة التي تجمعت وفودها من كل صوب وكيان، فلم يقتصر الأمر على النجديين وحدهم، بل سرى مسراه أيضا إلى وادي الحجاز ومدن الطائف وتهامة وتعز وصنعاء وعدن وحضرموت وصرواح ومأرب سريان النار في الهشيم. - الشماء ماتت!
وعلى الفور توافدت الفرسان على مشارف نجد وساحاتها التي غصت بجنازات النساء النائحات والمبتهلات وطالبات الرحمة وشاعرات الموت ومنشداته.
وكان الأمر أكبر وأقسى من مجرد موت أميرة وقائدة، لها وحدها ثلث المشورة في الحرب والسلم والهجرة والتصالح والمهادنة والتحالف.
وكما لو أن هناك إحساسا خفيا جماعيا ناشب الجذور داخل الجميع عن مدى جسامة الكارثة الكبرى الجاثمة التي ستحط يوما على رءوس الجميع، لتمتص رحيق الحياة من جزيرة العرب شمالا وجنوبا. - ما الخبر؟
صحيح أن بوادر الأيام الصعبة لم تلحق عرب الجزيرة بأسرها سوى مع حلول المرض بالأميرة شماء الأم، الذي لازمها السنوات الأخيرة فأمسكها عن كل حركة ونشاط.
وهي بذاتها وتمامها السنوات التي نكست فيها الرايات الهلالية، دون تطلع لجهاد وفتوحات قوامها التعريب والتوحيد، وكأنه باستسلام أميرتهم الأم القهري لآلام مرضها العضال الطاعن استسلم الجميع انتظارا للحظة العافية التي امتدت لسنوات إثر سنوات إلى أن وقع المكتوب.
صفحه نامشخص
وضاعف من ثقل تلك الأيام العصيبة التي استغلها كل طامع في الهلالية انقطاع المطر وحلول الجفاف الذي امتص كل رحيق لخضرة وحياة من الزرع والبهائم، بل والناس أنفسهم على مختلف فئاتهم وطبقاتهم.
وهكذا لم يعد بإمكان الجميع سوى التذرع بالانتظار الثقيل، طالبا للعافية ومعاودة الجهاد وركوب المصاعب للخروج من واقع هذا المأزق القاتل لكل حياة.
فحتى ابنها الأكبر ذاته الأمير حسن بن سرحان سلطان التحالف الهلالي، وأخته وريثتها في القيادة والانفراد بثلث المشورة الأميرة «نور بارق» التي عرفت ب «الجازية»؛ حط عليهما ذلك الانتظار الثقيل عاما إثر عام دون تملك القدرة على الإتيان بقرار أو فعل جماعي، بسبب مرض الأميرة الأم وجفاف الصحراء الذي وصل بالهلاليين إلى حد العطش. - ما العمل؟
منذ البداية حاولت الجازية التبشير بمشورة أمها المريضة الغائبة عن كل وعي المثقلة بجراحها الغائرة ... التي لم يسلم منها عضو في جسدها الناحل نتيجة ما خاضته من معارك تركت آثارها وبصماتها عليه.
لكن كان ذلك كله دون جدوى، بل من يسمع ويعي والجميع تعودوا على تلقي القرار مشهرا من فمها الشريف، ساريا على كل رءوس القبائل والأمراء والشيوخ وملوك الجزيرة: شماء الأم القائدة.
بل حتى فارس التحالف الهلالي ذاته، أبو زيد الهلالي، الذي أعلن لجموع بني هلال خبر موت الأميرة الأم شماء الفاجع من أعلى الجبال المطلة على ساحات المدينة؛ لم يسلم من السب والتجريح والتطاول من الجماهير الغاضبة غير المصدقة الهائجة، المطالبة بإشهار الجثمان لتتيقن منه كل عين ترى وتبصر. - كذب، كذب! - تدليس! - اخرس يا شؤم - أين الجثمان؟ - الشهود، أين الشهود؟
وهكذا تدافعت الأجساد كيوم الحشر، باتجاه مضارب الأميرة «شماء» لا يوقفها حرس أو فرسان دون التفاته إلى الخلف، مطالبة بالدليل واليقين.
وتكسرت كل محاولات السلطان حسن ابنها ووريثها وابنتها الجازية و«أبو زيد الهلالي سلامة»، في رد الوفود الثائرة وإعادتها إلى صوابها، وهي التي صدمها النبأ الفاجع حتى العظم. - الجثمان، الجثمان.
ورغم التطاول على أبي زيد الهلالي من جانب بعض الأفواه التي أعماها الغضب، فإنه كان الأسرع بالمبادرة إلى إقناع السلطان حسن بإخراج الجثمان وتسجيته على أعلى سلالم قصر الأميرة الأم الرخامي؛ لتهدئة ثائرة الجماهير المنذهلة غير المصدقة: - إنا لله وإنا إليه راجعون!
وهكذا حط الهدوء على هامات الرءوس الثائرة والغاضبة والفزعة، وتدافعت الوفود في ثباتها تلهج بالرحمة والغفران للموتى والأحياء معا، وهي ترقب الجثمان الطاهر المسجى في حالة من الاطمئنان والصفاء الذي فعل مسراه في الأعصاب والمشاعر التي أغرقها الحزن.
صفحه نامشخص
واعتلى كل أمراء بني هلال بدءا من السلطان حسن وأبنائه الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى إلى الجازية وأبو زيد الهلالي الساحات، متحدثين في ثبات إلى جماهير المشيعين.
واندفعوا يطالبونهم بتحكيم العقل وإعمال الحكمة، بحثا عن حلول لما أصبح يعانيه الجميع شمالا وجنوبا من جوع ومذلة: - المشورة حق للجميع.
وما إن انتهت مراسيم دفن الجثمان والعزاء والمواساة، حتى اشتهرت وصية الأميرة الأم، والتي نصبت فيها الأميرة «نور بارق» أو الجازية لتأخذ مكانها في قيادة التحالف الهلالي.
وهنا تنفست الجماهير المحيطة التي لا تحدها غير الصعداء، فالجازية وحدها هي الأقدر عن جدارة في أخذ مكان الأميرة الأم، وهي المعروف عنها مدى بأسها في الحرب والنزال، ومدى حنوها واحتضانها لآلام الجميع التي تزايدت في السنوات الأخيرة العصيبة التي صاحبت الجفاف. - الجازية، أم محمد.
1
وكما لو أن اسمها ذاته سرى بين الجموع مهدئا كبلسم شاف.
حتى إذا ما واصل قاضي قضاة نجد «بدير بن فايد» قراءة وصية الأميرة الأم التي دونت على رقعة طويلة من جلود الغزلان البرية، تعدى طولها طول قامته، معلنا رصد الشماء للجانب الأعظم من ممتلكاتها وكنوزها لفقراء بني هلال وبسطائهم بالإضافة إلى جرحى الحرب والمعوقين وأسر الشهداء، حتى تعالت الأصوات المترحمة مدوية من كل جانب، وعلا بكاء النساء ونحيبهن، وسمعت أشعار المراثي علية من هنا ومن هناك:
شما تلفتيني
بحبك شبقتيني
قومي واسقيني
صفحه نامشخص
من فوق شبرية
بالليل أنا أزورك
وها الوقت دا شويه. •••
انظر لشامتها
هذي علامتها
انظر لقامتها
شبه الردينية.
ولم تتوقف سيول الأشعار الجنائزية والمراثي إلا عندما تدخل القاضي بدير مقاطعا بحزم مواصلا قراءة الوصية لجموع الهلاليين مشرقا ومغربا، والتي تضمنت الحث على الجهاد والتلاحم والدفاع عن الحق والأخذ بالمشورة وتكامل العقول العربية، وعدم الاستسلام للواقع القاسي الذي لحق بقوت الجميع ومصيرهم.
وامتدت أيام الحزن أربعين يوما توافدت خلالها الوفود العربية من كل مكان وكيان إلى ربوع نجد للعزاء في وفاة الأميرة الأم، رأس المشورة للتحالف القبائلي الهلالي شمالا وجنوبا.
جاء من العراق الأعلى حاكمه الخفاجا عامر وابنته «ذوابة» التي تسمى بها، وهي الشاعرة العريقة التي أبكت جماهير بني هلال، وخاصة نساءهم بأشعارها:
صفحه نامشخص
يوم غرب النجع يا ما بكى ضرغام
وقال بيض الليالي مضت
واللي بقى صار غام
رايح تغرب يا ابو ذوابة
وفايت الاصطبل والخيل فيه
ما بكى الخفاجا عامر وقال
بكر الشجر راح
ما عادت تنفع الخيل فيه.
وجاء من وادي الحجاز الأمير جابر وابنته العالية بنت جابر، وكانت ممشوقة القامة باهرة الجمال شديدة الحضور، وما إن وقع نظر فارس بني هلال أبي زيد الهلالي عليها حتى تأججت داخله المشاعر الملتهبة التي دفعت به دفعا إلى الاختفاء عن العيون أياما، لا يعرف له أحد مكانا إلى درجة دفعت بالسلطان حسن بن سلطان إلى إرسال وفوده وفوارسه للبحث عنه أينما كان وتحت أي سماء، دون جدوى.
خاصة وقد كثر توافد المعزين من حلفاء بني هلال من كل صوب ومكان، سواء من فلسطين العربية ومروج بني عامر أو هلال بن عامر أو من الشام وحلب الشهباء.
صفحه نامشخص
وجاء فارس تحالف عرب جنوب الجزيرة القحطانيين دياب بن غانم الزغبي ووالده الضرير الأمير غانم، الذي كلت عيناه إلى حد فقدان النظر الكامل ليشارك في العزاء ويلتقي بابنته «نوفلة» لوجه السلطان حسن الصديق الحميم لأبي زيد الهلالي.
وأقام دياب بن غانم الدنيا وأقعدها حين لم يجد أبا زيد الهلالي في استقباله، وحين ألح في سؤال السلطان حسن وابنه الأكبر يونس ولم يجد جوابا، استبد به الضيق الذي أفصحت عنه أساريره القاسية الملامح: - أين أبو زيد؟!
ومن جديد واصل السلطان حسن إرسال فرسانه وأبنائه وعيونه في كل مكان بحثا عن أبي زيد الذي بدا كما لو أن الأرض عن آخرها انشقت وابتلعته دون أثر، منذ أن لامست يده يد الأميرة العالية (بنت جابر) مترجلة عن هودجها الذي أقلها من وادي الحجاز.
غيرة الجازية من حب العالية وأبي زيد
هكذا وجد فارس الهلالية أبو زيد نفسه بين لحظة وما أعقبها ينبض قلبه بلا هوادة أو توقف بحب العالية بنت جابر، وهو الذي منذ بضع سنوات فقط ليست بالبعيدة قطع بحسامه - المهند - رأس شقيقيها الأميرين عقيل وزيد، حين اشتد به الغضب ووصل به الهياج من جشعهما وتسلطهما حين تفتحت عيونهما على أسلاب الهلالية من كنوز أكاسرة الهند وسرنديب وعروشهم وثرواتهم.
وصل به الغضب والغيرة دفاعا عن حقوق المجاهدين من معدمين ومعوزين وجرحى وأسرى وشهداء، إلى حد التهديد بغزو مضارب الأمير الأكبر «جابر» ذاته واستباحتها.
إلا أن العالية بصائب بصيرتها تمكنت منذ أن تصافحا داخل معازي الحريم من أن تضمد له غائر جرحه الدفين الذي عاناه أبو زيد وحده السنين الطوال، وهو أن يرفع سلاحه يوما ليشهره في ذات - قبائله - جسده كمثل رجل ينتحر ...
تمكنت العالية بعمق مشاعرها من تجفيف دماء إحساسه الدفين بالذنب والإدانة، وعفا الله عما سلف، فيبدو أنه كان محقا فيما أقدمت عليه ذراعه الضاربة في عنقي فارسين من أخلص فرسان الهلالية وأقدرها على المنازلة سوى من هفوة الجشع المفضي إلى التسلط، حتى إذا ما انتهت جلستهما القصيرة المؤثرة وعاد أبو زيد متخذا طريقه إلى ديوان السلطان حسن والرجال معتذرا مرحبا رواده من فورة الإحساس الذي عرفه كثيرا عقب فك قيود الأسر وانتزاع سلاسل الإدانة، فاستراحت عضلات وجهه وعاد استرخاؤها وحبورها على مشهد من عيون الجميع وأولهم صديقه وموضع سره المقرب الأمير الشاب يونس.
فكان يونس هو الوحيد الذي استنجد به السلطان ليعود إليه برقبة أبي زيد، فهو الوحيد الذي يعرف مكمنه.
هنا اعتلى يونس جواده قاطعا السهول والوديان إلى أن تسلل وهو يغوص سراديب وزوايا ذلك الحصن الذي غيبت السنون والعصور معالمه وأبهاءه حتى توقف عند رأس أبي زيد الهلالي الذي هب من إغفاءته، كما لو كان يعاود الإطلال على عالم غريب غير مألوف هاتفا: يونس.
صفحه نامشخص