بمعنى أنه لا يمكن لأمة أن ترتب حياتها على أساس وجودها اليوم فقط، وإنما كلها في الغالب تعمل لدنياها وكأنها ستعيش أبدا، بينما هي تعمل وكأنها ستموت غدا، لآخرتها فقط وليس لدنياها.
ولقد أسعدني أنني لم أكن وحدي الذي فكرت وأفكر في هذا كله، ففي حديث الأستاذ محمد حسنين هيكل لجريدة أخبار اليوم ذكر ما أسماه المشروع القومي العام، بمعنى أننا صحيح لدينا تعدد أحزاب وحريات ديمقراطية لا بأس بها، ولكن الأمم لا تقوم بهذا، وإنما تقوم الأمم؛ حكومة ومعارضة وأحزابا ومستقلين وجماهير عادية بهدف قومي عام تسعى لتحقيقه، ويشكل بالنسبة لتفكيرها على المستوى الفردي والجماعي ما أسميته ب «المستقبل» والسعي لتصور وتأكيد العمل من أجل هذا المستقبل، إذا اتفقنا جميعا على تصور واحد، وإن يكن مختلفا في جزئياته وتكتيكاته وطرق الوصول إليه، إذا اتفقنا على ما يمكن أن نصنعه بمستقبلنا «العام» وتبينت لنا خطوطه ولو العريضة جدا - لأمكن لكل منا كفرد، ولكل حزب كحزب، ولكل جهاز كدولة، أن يطمئن إلى أنه يسير في طريق معروف سلفا إلى أين يؤدي، ونهايته أيضا تكاد تكون معروفة.
وربما من أجل افتقارنا إلى هذا التصور العام لمستقبلنا، يرتبك حاضرنا ويشتد بنا الارتباك، ولا نستطيع أن نفرق بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي، بين ما هو ملح، وما يمكن تأجيله، سؤال مشروع تماما، فنحن مثلا كنا نعرف أن علينا ديونا، متى نسددها؟ وكيف؟ وهل يأتي اليوم الذي نتوقف فيه عن الاقتراض وعن الاعتماد على المعونات؟ أو أنه لن يأتي أبدا؟!
مشكلة الديون هذه جزئية واحدة من جزئيات رؤيتنا الشاملة إلى المستقبل أو بالتعبير الهيكلي المشروع القومي العام.
ذلك لأنه توجد جزئيات أخرى كثيرة جدا، فجانب المشاريع الكبرى والطرق والكباري والخدمات هي كلها موجهة لخدمة المصريين الذين يحيون اليوم أو على الأكثر في الغد القريب، ولكن مصر كدولة ستحيا ربما للآلاف من السنين المقبلة، فلنتواضع ولنقل على الأقل للمائة عام المقبلة، فهل ما نقوم به من خدمات الآن، وهي جليلة ما في ذلك شك، كاف لكي نرى من خلاله مستقبل مصر، أي مستقبل أولادنا وأحفادنا وكيف يكون؟
إنني هنا أؤكد أن كل مشاريع الخدمات في مصر - مهما بلغت ضخامتها - لا يمكن أن تطمئن المواطن أو الحزب أو الجهاز على مستقبلنا، فهي مشاريع لخدمة الحاضر، ونحن لا يمكن أن نبني الحاضر على أسس سليمة إلا إذا كنا نرى المستقبل بوضوح تام، أو على الأقل بشبه وضوح.
ونفعل هذا رغم أن كل الأحداث، خاصة الأخيرة منها، تهيب بنا أن قد آن الأوان ليجتمع شمل المصريين حول رؤيا للمستقبل وكيف يكون؛ إذ بدون هذا سوف نظل نتخبط، ونحيا يوما بيوم، و«طقة» «بطقة»، وتظل أفعالنا ليست مبنية على خطة كبرى ننفذها على خطوات، وإنما مجرد ردود أفعال، إما أن نحاول اتهام الآخرين بأنهم وراءها، وإما أن نحاول تجاهلها، وإما أن نتشاغل في مشكلة فرعية تصبح وكأنها مشكلة الساعة، ونفعل هذا حكومة ومعارضة.
ولأضرب مثلا.
في الأسبوعين الماضيين ناقش مجلس الشعب استجوابا قدمه الأستاذ يس سراج الدين عن «هبوط» مستوى برامج التليفزيون، وعن حكاية القناة الثالثة، وعن غياب المعارضة عن الشاشة الصغيرة وميكرفون الإذاعة.
ولسوء الحظ قدم الاستجواب والمعركة مستمرة بين المعارضة والشارع المصري من جهة وبين مصداقية بعض الأجهزة الحكومية والإعلامية من جهة أخرى، وكان حريا بدلا من أن نظل لمدة يومين كاملين نستمع إلى آراء ما أنزل الله بها من سلطان حول القناة الثالثة وماهية المواد التي تقدم فيها، وحول وصول نجوم المعارضة إلى الشاشة الصغيرة أو حتى الكبيرة، كان حريا أن يتحول مجلس الشعب إلى قاعة لا حزب أغلبية فيها ولا معارضة، وإنما إلى مؤتمر وطني كبير يناقش فيه فلسفة إعلامنا بالدرجة الأولى.
صفحه نامشخص