ولكني كنت قد بدأت أتبين شيئا من ملامح ذلك الكاتب الداخلية، فهو قد درس الفلسفة وعشقها، وأنا قد درست العلم وعشقته، وصحيح أن الاثنين طريقان للحقيقة مختلفان تماما لا يتفقان إلا على النهاية الواحدة، ولكني - هكذا قلت لنفسي - أفضل طريق العلم، ومن قبيل حب الاستطلاع حاولت بجدية خطيرة أن أدرس الفلسفة، فلم يقنعني أيهما بالمرة، أجل، بدأت أتعرف على الكاتب الداخلي فيه، ومن لمعات عينيه بدأت أنا الآخر ألمح علامات تعرفه علي.
قلت: كما قلت لك يا أستاذ دورنمات لقد قرأت بعض آراء النقاد عن مسرحك، ولكني أنا شخصيا أعتقد أن أحدا منهم لم يكتشف خاصيتك الأصيلة، وهي قدرتك عن طريقتك في اختراع الفانتازيا والأسطورة العصرية لاختراق عالمنا الحالي بطريقة تعريه تماما، فهل أنت معي في هذا؟ وهل نستطيع أن نسمي مسرحك الفانتازيا «الخيالية» الحديثة؟
قال: إن الفانتازيا جزء لا يتجزأ من التركيب «العقلاني» للإنسان، إن الخيال في معظمه منطقي أيضا، إن الرياضة هي المعادل المتخيل الموجود الممنطق، ومع هذا فالرياضة أيضا فانتازيا لأنها تخيل للأشياء على هيئة أرقام أو رموز، إنك في الكتابة تحتاج إلى اكتشاف الرؤية المتخيلة الأولية سواء أكانت رؤية عظمى أو غير عظمى، ولكنها رؤية جديدة مختلفة، بعد هذا الكشف الأول تصبح عملية الكتابة للمسرح وكأنها لعبة شطرنج محسوبة خطواتها، ففي مسرحية مثل «أوديب» نجد الرؤية العظمى تهبط عليه على هيئة نبوءة من آلهة الأوليمب، تقول له إنه سيقتل أباه ويتزوج أمه مثلا، ويريد أوديب أن يتجنب هذه النبوءة أو الرؤيا فيتجنبها بواسطة خطوات منطقية محسوبة مسرحيا أو تراجيديا، كما تحب أن تسميها، ثم نجد أننا قد وصلنا مع أوديب إلى نقطة لا تخضع للحساب، لماذا يذهب إلى تلك المدينة «طيبة» التي فيها أمه وأبوه على وجه التحديد، هذه المسألة تحدث صدفة؛ إذ هنا لا بد أن يعمل قانون الصدفة.
قلت: ولماذا لا تسميه قانون القدر أو الحتم؟!
قال: لأنه كان من الممكن ببساطة أن يذهب إلى مدينة أخرى، حتى لو أجريت عليه قوانين الحتمية كما تسميها، كان من الممكن أن يختار أقرب مدينة أو أجمل مدينة أو أشهر مدينة، أما أن يختار «طيبة» بالذات فهذا أمر لا يمكن أن تحكمه إلا الصدفة، والصدفة وحدها.
قلت: إنه أمر في رأيي لم يحكمه قانون الصدفة، ولكن حكمته إرادة المؤلف المسرحي الإغريقي الذي كتب «أوديب» الأولى.
قال: إن هذا الكاتب أيضا لم يكن يحكم نفسه وهو «يؤلف» هذه الصدفة.
قلت: إذن، أنت معي أن هناك قوة أو دافعا أكبر من الصدفة هو الذي جعله يختار هذا الاختيار.
قال: ولكنه اختيار يفرضه العمل الفني المسرحي.
قلت: ولكن الفن المسرحي ليس في حد ذاته قوة تستطيع أن تفرض قوانينها أو مسارها.
صفحه نامشخص