ولكن الأنظار ظلت مسلطة عليه، وكأنما لتتأكد من صدق توبته، ثم ما لبثت في أزمنة متفاوتة، وبسرعات متفاوتة، وتردد وأدب وقلة أدب وقوة أبصار متفاوتة أيضا، أن استدارت إلى «الست» تتفحصها وتحلل ملابسها إلى عواملها الأولية وأثمانها، ووجهها إلى أنف وعيون ونوع بودرة وطريقة تصفيف شعر، وحذائها الواضح من تحت المكتب لتحدد إلى أي الطبقات الاجتماعية تنتمي.
والظاهر أنهم اندمجوا في الاستطلاع والتحليل إلى درجة لم يشعروا فيها بعيون محمد الجندي، وهي تنضم إلى وليمة العيون بلا حرج أو تكليف، وبطريقته الدنيئة اللزجة الخاصة.
وغير مهم الزمن الذي استغرقته عملية الفحص، فهم وإن كانت مشاربهم وشخصياتهم وأهواؤهم مختلفة متباعدة إلا أنهم جميعا - بمن فيهم الجندي - خرجوا برأي واحد ... الواضح أن الزميلة العزيزة جميلة التقاطيع، مسمسمة، سمراء قليلا، ومن كل أدوات الزينة لا تستعمل سوى الروج، ليس غامقا كالسمراوات حين يضعنه، ولكنه روج مؤدب هو الآخر ليس هدفه أن يبرز جمال الشفاه، إنما هدفه فقط أن يدل على وجودها ويحددها، وكان واضحا أنها ليست مؤدبة فقط، ولكن أدبها من النوع الذي لا يمكن التحول عنه، فهي لا تستعمله؛ لأنها مع رجال مثلا أو تخاف على سمعتها، ولكنه أدب حقيقي نابع من طبعها.
غير أن الجندي لم يفته أن يلاحظ أنها قد طلت قدميها بالمانيكير، وقد أسعده اكتشافه هذا سعادة لا توصف، فهو في نظراته لجنس النساء عامة كان دائما يحاول أن يجد فيهن أو في شخصياتهن ما يسميه هو بعلامة «الرضاء الموارب»، وسناء كان من الواضح أنها من النوع المحصن المغلق الحصين، ما عدا هذا الطلاء الذي لا يكاد يرى في أصابع قدميها.
لعل وعسى يصلح علامة للرضاء الموارب، من يدري؟ لعل وعسى. •••
وفي حوالي الحادية عشرة بدأت تحدث في المصلحة - وعلى نطاق أضيق - حركة تجوال أخرى وتطواف هدفها تكوين فكرة ما عن الموظفات الجديدات، واثنان من موظفي الحجرة هما اللذان خرجا هذه المرة ... كان أولهما محمد الجندي الذي اتجه فورا إلى إدارة التفتيش، حيث قد سمع عرضا من الساعي أن الموظفة التي عينت هناك مثل «المهلبية»، فعلا وجدها كذلك وبطريقة تسيل اللعاب، فقد كانت تبتسم على الفاضي والمليان ولكل من هب ودب، وتحادث كل راغب في الحديث، وكل شوية وشوية تمد أصابعها بسرعة لتطمئن على «القصة» وتفرد شعراتها أو تجذبها إلى أسفل لتعيدها إلى فوق جبهتها، ولكنه أيضا لم يتوقف كثيرا في إدارة التفتيش؛ فقد كان عليه أن يطوف بالمكاتب الثلاثة الباقية، لتكون فكرته عن الزميلات الجديدات كاملة ومبنية على أساس من المشاهدة الشخصية التي لا تقبل الجدل.
وأكثر من «جندي» كنت تجدهم كذلك، وأكثر من جماعة تكونت أعضاؤها من السعداء التي عينت في أقسامهم فتيات يتبادلون الرأي حولهن ويقارنون بينهن ويختلفون حول أيهن تتوج ملكة الجمال على الخمس؟ وأيهن أكثر أناقة؟ ومن ملكة السيقان؟ ولم يخل الأمر من جماعات مشتركة من سعداء الحظ وتعسائه، أولئك الذين ظلت مكاتبهم رجالية خشنة في تلك الجماعات، وبعد أن كان أعضاؤها ينتهون من التحسر أو التفاخر كان يبدأ حديث ما عن المستقبل، وبالذات عن مستقبل الفتيات ! وعند هذه النقطة كانت تتفق آراء الجميع على أنها مسألة أيام فهن قد نجحن حقيقة في اقتحام ذلك المعقل الرجالي، واغتصاب مكاتب بقرارات، ولكن المشكلة ليست في الاقتحام ... المشكلة في الصمود في العمل نفسه، فمما لا شك فيه ولا نقض أنهن لن يستطعن بأي حال أن يمارسن العمل، لا لصعوبته، ولكن لاحتياجه إلى عقلية الرجل وتصرفه وشخصيته ... وهكذا كان أكثر المتفائلين تفاؤلا لا يعطيهن سوى شهر واحد مهلة، بعده ستضطر المصلحة حتما لأن تطلب نقلهن إلى أعمال أخرى في الوزارة، أو حتى خارج الوزارة كلية ... والدلائل كانت تشير إلى أن شيئا من هذا وشيك الحدوث، فالمصلحة لتلك اللحظة حائرة لا تعرف ماذا تعهد إليهن به، والفتيات لا يزلن جالسات لا يفعلن إلا الانتظار، بينما موظفة التفتيش نادمة على أنها لم تحضر معها الإبر والتريكو؛ إذ كان باستطاعتها خلال السبع الساعات التي قضتها جالسة تنش الذباب أن تنتهي بسهولة من البلوفر الذي بدأته.
يومها، ذلك اليوم الأول، عادت سناء إلى البيت بإحساس تلميذة أولى ابتدائي حين تعود بعد أول يوم دراسي في حياتها، وكل ما داعب خيالها من أحلام حول الدراسة قد تبخر في أثناء جلستها الطويلة على المقعد بلا حصص ولا كتب جديدة ولا مسائل حساب.
ولكن ذلك كان في اليوم الأول فقط، فما كاد يمضي يوم آخر إلا وسناء قد وجدت نفسها غارقة في العمل، ضائعة مشتتة، وكأنها تقرأ أسئلة امتحان جاءت كلها خارج المقرر، لقد ظل الباشكاتب يشرح لها ما يجب عليها عمله أكثر من ساعة، ويسألها بعد نهاية كل شرح إن كانت قد فهمت فتهز رأسها بالإيجاب، ولكنها حين يعهد إليها بالموضوع على سبيل التجربة تجد كل ما قاله يطير من عقلها ويتشتت، وتجد نفسها عاجزة عن تنفيذ ما طلبه أو فهمه. تحدق في يأس قاتل ناحية أحمد وشفيق وحتى محمد الجندي، وتجدهم جميعا منكبين يعملون بسرعة وببساطة، فتكاد تبكي وهي تحس بهم عباقرة مشتعلي الذكاء، وبنفسها غبية حمقاء لا يمكن أبدا أن يأتي عليها يوم يصبح لها فيه نفس قدرتهم الخارقة تلك.
والغريب أنها بعد بضعة أسابيع حين أدركت أن كل المعميات التي كان مطلوبا منها أن تنجزها، لم تكن تتعدى تحرير التصريح وتتبعه حتى يختم بخاتم المصلحة، كانت تضحك على نفسها ولخمتها! ولكنه شيء لم يحدث إلا بعد بضعة أسابيع، أما في تلك الأيام الأولى فحدث ولا حرج عن العرق، والمنديل الصغير وهو ينتقل في سرعة واضطراب كمنديل الحاوي المبتدئ من باطن إحدى اليدين إلى الجبهة، والخجل المشل للقلب المعشي للبصر، والدموع ... الدموع الداخلية غير المرئية التي لا تني عن سكبها في المصلحة، والدموع الظاهرة التي تنفجر بإرادتها في البيت، حالة ليتها كانت تملك معها القدرة على الرثاء لنفسها، فالعكس هو الصحيح، إذ كانت لا تكف عن لوم نفسها رغم كل هدهدات الأم ومحاولاتها للتخفيف والتبرير، رغم كل ابتسامات زملائها في الحجرة والعمل ونظرات الإشفاق التي يغمرونها بها حتى لا تتعثر فيها وتكاد تنزلق، رغم صبر الباشكاتب وطول باله واحتماله لها وهي تكرر الخطأ نفسه مرة، وتحاول بعناد أن تتلافاه فتجد نفسها تكرره مرة أخرى، وأية أخطاء! أخطاء تصل إلى أنها وهي خريجة التجارة تجد نفسها أحيانا عاجزة عن تحويل المبلغ المرقوم أمامها إلى مبلغ مكتوب، وتشك وتخاف ألف مرة قبل أن تضع العلامة العشرية.
صفحه نامشخص