من مطبوعات وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
العواصم من القواصم
في تحقيق مواقف الصحابة
بعد وفاة النبي ﷺ
تأليف
القاضي أبي بكر بن العربي
(٤٦٨ - ٥٤٣هـ)
أشرفت وكالة شئون المطبوعات والنشر بالوزارة على إصداره
عام ١٤١٩هـ
ح وزارة الشئون الإسلامية، ١٤١٨هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
ابن العربي، محمد عبد الله
العواصم من القواصم - الرياض
٢٩٦ ص؛ ١٣. ٥ × ١٩. ٥سم
ردمك ٠- ١٤٨ - ٢٩ - ٩٩٦٠
١ - التاريخ الإسلامي
٢ - الصحابة والتابعون
٣ - الخلفاء الراشدون
العنوان
ديوي ٩٥٣، ٠٢
٠٤١٤ / ١٨
رقم الإيداع: ٠٤١٤ / ١٨
ردمك: ٠-١٤٨ - ٢٩ - ٩٩٦٠
[رسالة التقدير] وقع هذا الكتاب من أولياء الله وأنصار دينه وأحباب محمد ﷺ وأصحابه من المهاجرين والأنصار موقع التقدير والرضا، كما وقع من مبغضي الصحابة وشانئيهم موقع السخط والغيظ. ومن رسائل التقدير والتشجيع التي تلقيناها رسالة كريمة يراها القارئ في الصفحة التالية، وهي صادرة عن ركن من أركان بيت العلم والهدى في الأرض المباركة، أدام الله النفع به. بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضيلة الأخ الكريم الشيخ محب الدين الخطيب سلمه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد وصل إلى أيدينا كتاب [العواصم من القواصم] للإمام أبي بكر بن العربي، بتصحيح وتعليق فضيلتكم. وقد اطلعنا على هذا الكتاب العظيم فوجدناه من خير الكتب وأعظمها نفعا، إذ انبرى مؤلفه ﵀ يدافع عن حملة الإسلام ومن قامت على كواهلهم دولته، أصحاب رسول الله ﷺ، وقد أوفى على الغاية في تبيين محاسن أولئك الأبرار ﵃ وأرضاهم، وإنه لسهم صائب أصاب من باطل أعدائهم -أخزاهم الله- مقتلا. فرحم الله المؤلف وأجزل له الثواب، وجزاكم الله أحسن الجزاء على تعليقاتكم القيمة التي دلت على سعة علمكم، وصدق نصحكم للإسلام والمسلمين. ونحن يسرنا بهذه المناسبة أن نقدم لكم عظيم شكرنا وتقديرنا لعملكم المجيد هذا بإخراجكم هذا الكتاب صيحة تنصر الحق وتخذل الباطل. والباري يحفظكم. أخوكم في الله رئيس هيئات الأمر بالمعروف بالحجاز عبد الملك بن إبراهيم
[رسالة التقدير] وقع هذا الكتاب من أولياء الله وأنصار دينه وأحباب محمد ﷺ وأصحابه من المهاجرين والأنصار موقع التقدير والرضا، كما وقع من مبغضي الصحابة وشانئيهم موقع السخط والغيظ. ومن رسائل التقدير والتشجيع التي تلقيناها رسالة كريمة يراها القارئ في الصفحة التالية، وهي صادرة عن ركن من أركان بيت العلم والهدى في الأرض المباركة، أدام الله النفع به. بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضيلة الأخ الكريم الشيخ محب الدين الخطيب سلمه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد وصل إلى أيدينا كتاب [العواصم من القواصم] للإمام أبي بكر بن العربي، بتصحيح وتعليق فضيلتكم. وقد اطلعنا على هذا الكتاب العظيم فوجدناه من خير الكتب وأعظمها نفعا، إذ انبرى مؤلفه ﵀ يدافع عن حملة الإسلام ومن قامت على كواهلهم دولته، أصحاب رسول الله ﷺ، وقد أوفى على الغاية في تبيين محاسن أولئك الأبرار ﵃ وأرضاهم، وإنه لسهم صائب أصاب من باطل أعدائهم -أخزاهم الله- مقتلا. فرحم الله المؤلف وأجزل له الثواب، وجزاكم الله أحسن الجزاء على تعليقاتكم القيمة التي دلت على سعة علمكم، وصدق نصحكم للإسلام والمسلمين. ونحن يسرنا بهذه المناسبة أن نقدم لكم عظيم شكرنا وتقديرنا لعملكم المجيد هذا بإخراجكم هذا الكتاب صيحة تنصر الحق وتخذل الباطل. والباري يحفظكم. أخوكم في الله رئيس هيئات الأمر بالمعروف بالحجاز عبد الملك بن إبراهيم
صفحه نامشخص
[تصدير]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنعم على الإنسانية برسالة الإسلام، وصلى الله وسلم على الإنسان الأعلى، والمعلم الأكمل، محمد بن عبد الله صفوته من خلقه. وأعلى مقام الذين قاموا بتحقيق رسالته، ممن تشرفوا بصحبته، وأحسنوا الخلافة على أمته، ومن واصلوا عملهم بعدهم، ملتزمين سنتهم، ومتحرين أهدافهم، إلى يوم الدين.
وبعد فإن هذا العالم الإسلامي الذي نعتز بالانتساب إليه، ونعيش لإسعاده والسعادة به، قد افتتح أكثره في الدولة الإسلامية الأولى بعد الخلفاء الراشدين، ودخل معظم شعوبه في هداية الإسلام على أيدي الخلفاء الأمويين وولاتهم وقواد جيوشهم، إتماما لما بدأ به صاحبا رسول الله ﷺ وخليفتاه الأولان - أبو بكر وعمر - سلام الله عليهما، ورضي عنهما وأرضاهما وأحسن جزاءهما عنا وعن الإسلام نفسه وجميع أهله.
وإن حادثة انتشار الإسلام، ودخول الأمم فيه، أصبحت في ذمة التاريخ. والأجيال التي أتت بعد ذلك إلى يومنا هذا منهم من يفتخر بذلك، ويمتلئ قلبه سرورا به، ويدعو بالخير لمن كانوا سبب هذا الخير العظيم. ومنهم من ابتأس به، وامتلأ فؤاده حقدا على الذين عملوا فيه، وجعل من دأبه أن يصمهم بكل نقيصة.
1 / 1
وقد نعذر الذين لم يذوقوا حلاوة الإسلام وحالت البيئة بينهم وبين الأنس بعظمته، وشريف أغراضه، وسيرة الذين قاموا به، إذا نظروا إلى تاريخ الإسلام نظرة خاطئة، واتخذوا له في أذهانهم صورة غير صورته التي كانت له في الواقع. ولكني أعترف- ولا فائدة من الإنكار- بأن في المنسوبين إلى الإسلام من يبغض حتى الخليفة الأول لرسول الله ﷺ ويقلب جميع حسناته سيئات. وإن أحد الذين شاهدوا بأعينهم عدل عمر، وزهده في متع الدنيا، وإنصافه لجميع الناس، لم يستطع أن يمنع الحقد الذي في فؤاده على الإسلام من أن يدفعه إلى طعنه بالسكين دون أن يسيء إليه. وفي قوم طاعن عمر بالسكين من يؤلفون المؤلفات إلى يومنا هذا في تشويه حسنات هذا المثل الأعلى للعدل والإنسانية والخير. وفي عصر عثمان من ضاقت صدورهم بطيبة ذلك الخليفة الذي خلق قلبه من رحمة الله، فاخترعوا له ذنوبا وما زالوا يكررونها على قلوبهم حتى صدقوها، وتفننوا في إذاعتها، ثم استحلوا سفك دمه الحرام، في الشهر الحرام، بجوار قبر أبي زوجتيه محمد ﵊. وما برحت الإنسانية تشاهد المعجزات من رجالات الإسلام في نشره وإدخال الأمم فيه وتوسيع النطاق في الآفاق لكلمة " الله أكبر. . . حي على الفلاح " حتى نودي بها على جبال السند، وفي ربوع الهند وعلى سواحل المحيط غربا، وفي أودية أوربا وجبالها، بما لم يملك أن يصفه حتى أعداء الإسلام إلا بأنه معجزة. كل هذا في زمن هذه الدولة
1 / 2
الأموية، التي لو صدر عن المجوس وعبدة الأوثان عشر ما صدر عنها من الخير، وجزء من مائة جزء مما أثر عن رجالها من إنصاف ومروءة وكرم وشجاعة وإيثار وفصاحة ونبل، لرفعوا لأولئك المجوس والوثنيين ألوية الثناء والتقدير، لكنه في الخافقين، والتاريخ الصادق لا يريد من أحد أن يرفع لأحد لواء الثناء والتقدير، لكنه يريد من كل من يتحدث عن رجاله أن يذكر لهم حسناته على قدرها، وأن يتقي الله في ذكر سيئاتهم فلا يبالغ فيها، ولا ينخدع بما افتراه المغرضون من أكاذيبها.
ونحن المسلمين لا نعتقد العصمة لأحد بعد رسول الله ﷺ، وكل من ادعى العصمة لأحد بعد رسول الله ﷺ فهو كاذب. فالإنسان إنسان يصدر عنه ما يصدر عن الإنسان، فيكون منه الحق والخير، ويكون منه الباطل والشر. وقد يكون الحق والخير في إنسان بنطاق واسع فيعد من أهل الحق والخير ولا يمنع هذا من أن تكون له هفوات. وقد يكون الباطل والشر في إنسان آخر بنطاق واسع، فيعد من أهل الباطل والشر، ولا يمنع هذا من أن تبدر منه بوادر صالحات في بعض الأوقات.
يجب على من يتحدث عن أهل الحق والخير إذا علم لهم هفوات، ألا ينسى ما غلب عليهم من الحق والخير فلا يكفر ذلك كله من أجل تلك الهفوات. ويجب على من يتحدث عن أهل الباطل والشر إذا علم لهم بوادر صالحات، ألا يوهم الناس أنهم من الصالحين من أجل تلك الشوارد الشاذة من أعمالهم الصالحات.
1 / 3
إن أحداث المائة الأولى من عصور الإسلام كانت من معجزات التاريخ والعمل الذي عمله أهل المائة الأولى من ماضينا السعيد لم تعمل مثله أمة الرومان ولا أمة اليونان قبلها. ولا أمة من أمم الأرض بعدها.
وأما أبو بكر وعمر وسائر الخلفاء الأربعة الراشدين، وإخوانهم من العشرة المبشرين بالجنة، وطبقتهم من أصحاب رسول الله ﷺ، خصوصا الذين لازموه وراقبوه وتمتعوا بجميل صحبته - من أنفق منهم من قبل الفتح وقاتل، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا - فإنهم جميعا كانوا شموسا طلعت في سماء الإنسانية مرة، ولا تطمع الإنسانية بأن تطلع في سمائها شموس من طرازهم مرة أخرى إلا إذا عزم المسلمون على أن يرجعوا إلى فطرة الإسلام، ويتأدبوا بأدبه من جديد، فيخلق الله منهم خلقا آخر يعيش للحق والخير، ويجاهد الباطل والشر، حتى تعرف الإنسانية طريقها الحقيقي إلى السعادة. وهذه الشموس من أصحاب رسول الله ﷺ تتفاوت أقدارها، وتتباين في أنواع فضائلها، إلا أنها كلها كانت من الفضائل في مرتقى درجاتها، وإذ بدأ المشتغلون بتاريخ الإسلام من أفاضل المسلمين في تمييز الأصيل عن الدخيل من سيرة هؤلاء الأفاضل العظماء، فإنهم ستأخذهم الدهشة لما اخترعه إخوان أبي لؤلؤة، وتلاميذ عبد الله بن سبأ، والمجوس الذين عجزوا عن مقاومة الإسلام وجها لوجه في قتال شريف. فادعوا الإسلام كذبا، ودخلوا قلعته مع جنوده خلسة، وقاتلوهم بسلاح (التقية) بعد أن حولوا مدلولها إلى النفاق،
1 / 4
فأدخلوا في الإسلام ما ليس منه، وألصقوا بسيرة رجاله ما لم يكن فيها ولا من سجية أهلها. وبهذا تحولت أعظم رسالات الله وأكملها إلى طريقة من الخمول والعطالة والجمود كان من حقها أن تقتل الإسلام والمسلمين قتلا، لولا قوة الحيوية الخارقة التي في الإسلام، وهي التي ترجى إذا رجعنا إليها، وجردناها من الطوارئ عليها، وخلصنا سيرة رجالها مما شيبت به، وسرنا في طريقهم مخلصين، أن نعود مسلمين من ذلك الطراز الأول كما كان في الواقع، لا كما أراد مبغضو الصحابة والتابعين لهم بإحسان أن يعرضوه على الناس.
ونحن بتقديمنا هذه الحقائق من قلم الإمام ابن العربي، أو من النصوص الأصيلة التي علقنا عليها، إنما أردنا عكس ما يريد المتعرضون لهذه البحوث من ترديد خلافات عفا عليها الزمن. والصحابة كانوا أسمى أخلاقا وأصدق إخلاصا لله وترفعا عن خسائس الدنيا من أن يختلفوا للدنيا، لكن كان في عصرهم من الأيدي الخبيثة التي عملت على إيجاد الخلاف وتوسيعه مثل الأيدي الخبيثة التي جاءت فيما بعد فصورت الوقائع بغير صورتها. ولما كان أصحاب رسول الله ﷺ هم قدوتنا في ديننا وهم حملة الكتاب الإلهي والسنة المحمدية إلى الذين حملوا عنهم أماناتها حتى وصلت إلينا، فإن من حق هذه الأمانات على أمثالنا أن ندرأ عن سيرة حفظتها الأولين كل ما ألصق بهم من إفك ظلما وعدوانا، لتكون صورتهم التي تعرض على أنظار الناس هي الصورة النقية الصادقة التي
1 / 5
كانوا عليها، فتحسن القدوة بهم وتطمئن النفوس إلى الخير الذي ساقه الله للبشر على أيديهم. وقد اعتبر في التشريع الإسلامي أن الطعن فيهم طعن في الدين الذي هم رواته، وتشويه سيرتهم تشويه للأمانة التي حملوها، وتشكيك في جميع الأسس التي قام عليها كيان التشريع في هذه الملة الحنيفية السمحة. وأول نتائجه حرمان شباب الجيل، وكل جيل بعده، من القدوة الصالحة التي من الله بها على المسلمين ليتأسوا بها، ويواصلوا حمل أمانات الإسلام على آثارها، ولا يكون ذلك إلا إذا ألموا بحسناتهم، وعرفوا كريم سجاياهم، وأدركوا أن الذين شوهوا تلك الحسنات وصوروا تلك السجايا بغير صورتها، إنما أرادوا أن يسيئوا إلى الإسلام نفسه بالإساءة إلى أهله الأولين. وقد آن لنا أن ننتبه من هذه الغفلة فنعرف لسلفنا أقدارهم، لنسير في حاضرنا على هدى ونور من سيرتهم الصحيحة وسريرتهم النقية الطاهرة.
وهذا الكتاب الذي ألفه عالم من كبار أئمة المسلمين بيانا لما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ من صفات الكمال، وإدحاضا لما ألصق بهم وبأعوانهم من التابعين لهم بإحسان، يصلح على صغره لأن يكون صيحة من صيحات الحق توقظ الشباب المسلم إلى هذه الدسيسة التي دسها عليهم أعداء الصحابة ومبغضوهم ليتخذوها نموذجا لأمثالها من الدسائس فيتفرغ الموفقون إلى الخير منهم لدراسة حقيقة التاريخ الإسلامي واكتشاف الصفات النبيلة في رجاله فيعلموا أن الله ﷿
1 / 6
قد كافأهم عليها بالمعجزات التي تمت على أيديهم وأيدي أعوانهم في إحداث أعظم انقلاب عرفه تاريخ الإنسانية. ولو كان الصحابة والتابعون بالصورة التي صورهم بها أعداؤهم ومبغضوهم لكان من غير المعقول أن تتم على أيديهم تلك الفتوح، وأن تستجيب لدعوتهم الأمم بالدخول في دين الله أفواجا.
والقاضي أبو بكر بن العربي مؤلف (العواصم من القواصم) إمام من أئمة المسلمين، ويعتبره فقهاء مذهب الإمام مالك أحد أئمتهم المقتدى بأحكامهم، وهو من شيوخ القاضي عياض مؤلف كتاب (الشفا في التعريف بحقوق المصطفى)، ومن شيوخ ابن رشد العالم الفقيه والد أبي الوليد الفيلسوف، ومن تلاميذه عشرات من هذه الطبقة كما سترى من ترجمته الآتية بعد. وكتابه (العواصم من القواصم) من خيرة كتبه، ألفه سنة ٥٣٦ وهو في دور النضوج الكامل، بعد أن امتلأت الأمصار بمؤلفاته وبتلاميذه الذين صاروا في عصرهم أئمة يهتدى بهم. وهذا الكتاب في جزأين متوسطي الحجم، ومبحث (الصحابة) الذي نقدمه لقرائنا هو أحد مباحث جزئه الثاني (من ص٩٨ إلى ص١٩٣ من طبعة المطبعة الجزائرية الإسلامية في مدينة قسنطينة بالجزائر سنة ١٣٤٧) وكان قد وقف على تلك الطبعة شيخ علماء الجزائر الأستاذ عبد الحميد بن باديس ﵀. ومما يؤسف له أن الأصل الذي اعتمد عليه في تلك الطبعة كان مكتوبا بقلم ناسخ غير متمكن، فوقعت فيه تحريفات لفظية وإملائية حرصنا على
1 / 7
ردها إلى أصلها، بل إن النسخة المخطوطة التي طبعت عليها طبعة الجزائر يظهر أن المجلد وضع بعض ورقاتها في غير مواضعها، فأرجعناها إلى ما دل عليه السياق في القول، والترتيب في المسائل. وفيما عدا ذلك التزمنا الأمانة في عرض الكتاب إلى أقصى غاية. وعلقت على كل بحث منه بما يزيده وضوحا، مقتبسا ذلك من أوثق المراجع وأمهات الكتب الإسلامية المعتمدة، مبينا في كل نص مأخذه بكل أمانة ووضوح.
وأرجو الله أن يجزل ثواب الإمام ابن العربي على دفاعه هذا عن أصحاب رسول الله الذين حملوا معه ﷺ أعظم رسالات الله، وكانوا أصدق أعوانه على تبليغها في حياته، وبعد أن اختاره الله إليه. بل كانوا سبب كياننا الإسلامي، ولهم ثواب انتمائنا إلى هذه الملة الحنيفية السمحة التي لا عيب لها غير تقصيرنا في التخلق بآدابها في أنفسنا، وتعميم سننها في بيوتنا ومجتمعنا وأسواقنا ومحاكمنا ودور حكمنا. وعسى أن يكون في قراء هذا الكتاب من يعاهد الله على أن يكون خيرا منا عملا، وأصح منا علما، وعلى الله قصد السبيل.
جزيرة الروضة (تجاه الفسطاط): ٣ رمضان ١٣٧١
محب الدين الخطيب
(١٣٠٣ - ١٣٨٩)
1 / 8
[القاضي أبو بكر بن العربي مؤلف العواصم من القواصم ٤٦٨ - ٥٤٣]
[نشأته الأولى]
القاضي أبو بكر بن العربي
مؤلف (العواصم من القواصم) (٤٦٨ - ٥٤٣) نشأته الأولى: هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن العربي المعافري.
ولد في إشبيلية - لما كانت كبرى عواصم الأندلس - في يوم الخميس ٢٢ من شهر شعبان سنة ٤٦٨ في بيت من أعظم بيوتها بعد بيت مليكها المعتمد بن عباد. وكان أبوه عبد الله بن محمد بن العربي من وجوه علماء الدولة وكبار أعيانها، كما كان خاله أبو القاسم الحسن بن أبي حفص الهوزني في مكانة رفيعة من المجتمع الأندلسي. غير أن هذين البيتين كانا على طرفي نقيض في مشربهما السياسي: فوالد ابن العربي من أولياء الدولة، المتمتعين بالمكانة والوجاهة عند ولي أمرها، وخاله من أهل التوثب والطموح، وله مشاركة التآمر على المعتمد لقتله والده أبا حفص الهوزني، فكان خال ابن العربي على اتصال بيوسف بن تاشفين صاحب المغرب يواصل تحريضه على ابن عباد " حتى أزال ملكه، ونثر سلكه، وسبب هلكه " كما يقول الشهاب المقري في (نفح الطيب) (١) .
_________
(١) ج ٢، ص ١٣ طبعة سنة ١٣٠٢. وقد قبض ابن تاشفين على المعتمد وسجنه بمدينة (أغمات) فبقي فيها سجينا إلى أن مات في شوال سنة ٤٨٨. وكان هذا الانقلاب نكبة على بلاد دولته، ولا سيما أهل عاصمته، وأشد ما كان ذلك على حاشيته وذوي مودته.
1 / 9
في هذه البيئة الكريمة العزيزة بالعلم نشأ ابن العربي، ومنها أطل على الدنيا في السنوات الأولى من حياته. وعن هذين الرجلين -أبيه وخاله- تلقى ثقافته الأولى وأساليب تربيته، يساعدهما على ذلك أستاذه الخاص أبو عبد الله السرقسطي. وقد أعانت هؤلاء الثلاثة على مهمتهم في تكوين صفات المروءة فيه مواهب ممتازة من الذكاء وسعة المدارك ودماثة الخلق تحلى منها هذا الناشئ الممتاز بكل ما يهيئ له نضوج رجولته المبكرة، حتى قال هو عن نفسه (حذقت القرآن وأنا ابن تسع سنين، ثم ثلاثا لضبط القرآن والعربية والحساب، فبلغت ستة عشر سنة وقد قرأت من الأحرف -أي من القراءات- نحو من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه. وتمرنت في الغريب والشعر واللغة) .
رحلته عن إشبيلية: ولما بلغ السابعة عشر قضى الله بسقوط دولة آل عباد في سنة ٤٨٥، فخرج به أبوه من إشبيلية يوم الأحد مستهل ربيع الأول قاصدا شمال إفريقية فكان أول نزولهم في ثغر أنشئ من سنين قريبة على ساحل بلاد الجزائر، وهو ثغر (بجاية) الذي اكتشف مكانه محمد بن البعبع من رجال تميم بن المعز بن باديس، واتفق على إنشائه وتمصيره في سنة ٤٥٧ مع الناصر بن علناس ابن عم تميم المنافس له، وجعلا هذا المرفأ ملتقى الطرق على البحر الأبيض بين الأندلس والمغرب والجزائر وتونس، فنزل ابن العربي مع والده وأسرته في ثغر بجاية ولبثوا فيه مدة تتلمذ فيها ابن العربي على كبير علماء هذا البلد أبي عبد الله الكلاعي، ثم ركبوا البحر مشرقين إلى ثغر (المهدية)، وفيها أخذ فتانا عن عالمها أبي الحسن بن علي بن محمد بن ثابت الحداد الخولاني المقرئ، قال ابن العربي (فكنت أحضر عليه كتابه المسمى بالإشارة وشرحها وغيرهما من تآليفه، وكان في ذلك بالمهدية في شهور سنة ٤٨٥) وفي المهدية أيضا أخذ عن الإمام أبي عبد الله محمد بن علي المازري التميمي (٤٥٣ - ٥٣٦) .
1 / 10
[تعرض سفينته للغرق]
تعرض سفينته للغرق: ولما أبحروا من المهدية قاصدين السواحل المصرية تجددت لهم النكبة بهياج البحر عليهم، فوقعوا من ذلك في حادث استحسنت أن يقف القارئ على وصفه من قلم ابن العربي نفسه عندما ألف تفسيره (قانون التأويل) (١) قال: " وقد سبق في علم الله أن يعظم علينا البحر بِزَوْله (٢) ويغرقنا في هوله. فخرجنا من البحر، خروج الميت من القبر. وانتهينا بعد خطب طويل- إلى بيوت بني كعب بن سُليم- ونحن من السغب، على عطب. ومن العري، في أقبح زي.
وقد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها (٣) ودسَّمت الأدهان وبرها وجلدتها. فاحتزمناها أُزُرا، واشتملناها لُفعا (٤) تمجنا الأبصار، وتخذلنا الأنصار. فعطف أميرهم علينا، فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله على يديه وسقانا وأكرم مثوانا، وكسانا بأمر (٥) حقير ضعيف، وفن من العلم ظريف. وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاة (٦) فعل السامد اللاه. فدنوت منه في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته (٧) إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار. ووقفت بإزائهم أنظر إلى تصرفهم من ورائهم، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خُلس بطالة، مع غلبة الصبوة والجهالة. فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صاحبه. فلمحوني شزرا، وعظمتُ في عيونهم بعد أن كنت نزرا. وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام. فاستدناني، فدنوت منه. وسألني: هل لي بما هم فيه بصر؟ فقلت: "لي فيه بعض نظر، سيبدو لك
_________
(١) نقل ذلك عن (قانون التأويل) العلامة ابن غازي في كتاب (التكميل)، والرهوني في حاشيته على رسالة خليل، والشيخ مخلوف في طبقات المالكية (١: ١٣٧)، والمقري في (نفح الطيب) ١: ٣٣٧، و(أزهار الرياض) ٣: ٨٩ وغيرهم.
(٢) الزول: العجب.
(٣) جلدها.
(٤) جمع لفاع: ما يتلفع به، أي يلتحف به.
(٥) أي بسبب أمر.
(٦) أي يلعب بالشطرنج.
(٧) أتباعه وحراسه.
1 / 11
ويظهر. حرِّك تلك القطعة" ففعل، وعارضه صاحبه، فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم تترى، حتى هزمهم الأمير، وانقطع التدبير. فقالوا: ما أنت بصغير. وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشدا:
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر، فهو الدهر يرجو ويتقي
فقال: لعن الله أبا الطيب، أويشكُّ الرب؟ ! فقلت له في الحال: ليس كما ظن صاحبك أيها الأمير، إنما أراد بالرب هنا الصاحب. يقول: ألذ الهوى ما كان المحب فيه من الوصال، وبلوغ الغرض من الآمال، على ريب. فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله، وتقاة لما يقطع به، كما قال:
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي الإبرام والانتقاض، ما حرَّك منهم إلى جهتي داعي الانتهاض. وأقبلوا يتعجبون مني، ويسألونني كم سني؟ ويكشفونني عني. فبقرت لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي (١) . وأعلمت الأمير بأن أبي معي، فاستدعاه، وقمنا الثلاثة إلى مثواه (٢) . فخلع علينا خلعه، وأسبل علينا أدمعه. وجاء كل خوان، بأفنان الألوان. فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب (٣) مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذانا من العطب. وهذا الذي يرشدكم- إن غفلتم- إلى الطلب. وسرنا، حتى انتهينا إلى ديار مصر.
_________
(١) نجيثي: أي سري الذي كنت أخفيه.
(٢) منزله الخاص.
(٣) يقول ابن العربي هذا من باب التواضع، وإلا فإن علمه كان أكبر من سنه.
1 / 12
وسترى عند كلامنا على مؤلفات ابن العربي أن منها كتابا كبيرا سماه "ترتيب الرحلة، للترغيب في الملة" ومما يؤسف له أن هذا الكتاب يعتبر الآن مفقودا، ولكن الذي اطلعنا عليه من نماذجه المنقولة عنه في تراجمه وغيرها من كتب العلماء يدل على أنه من الذخائر النفيسة التي تصف الكثير من أحوال المجتمع الإسلامي وعمران أوطانه في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وتنوه بدخائل أعلامه من العلماء والحكام بقدر ما اطلع عليه هذا العالم الرحالة الدقيق النظر الذكي الفطرة الحريص على الإلمام بجميع أبواب المعرفة، ولو وقع لنا كتاب رحلته، لانتفعنا منه كثيرا في تدوين ترجمته، ولا سيما في السنوات التسع (٤٨٥ - ٤٩٣) التي قضاها في خارج الأندلس، بين حادثة سقوط دولة آل عباد والوقت الذي شاء الله له أن يعود فيه إلى وطنه.
[مروره بالديار المصرية]
مروره بالديار المصرية: ومما لا شك فيه أن ابن العربي ووالده لم يطيلا اللبث في كرم مضيفهم أمير قبيلة بني كعب بن سُليم، فتوجها قاصدين ديار مصر التي كان طريقهم عليها أيضا عند انتهاء الرحلة. وكان الحكم في مصر عند وصولهما إليها آخر سنة ٤٨٥ للمستنصر أبي تميم معد حفيد الحاكم، وكان علماء أهل السنة قليلي الظهور، حتى إن ابن العربي كان يذهب إلى القرافة الصغرى- قريبا من قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعي - ليلقى فيها شيخه مسند مصر القاضي أبا الحسن علي بن الحسن بن الحسين بن محمد الخلعي الموصلي الأصل المصري المولد الشافعي (٤٠٥ - ٤٩٢) ولهذا العالم ترجمة في حرف العين من (وفيات الأعيان) وفي (طبقات الشافعية) لابن السبكي (٣: ٢٩٦) وفي (شذرات الذهب) لابن العماد الحنبلي (٣: ٣٩٨) . وممن لقيهم في مصر وأخذ عنهم أبو الحسن بن شرف، ومهدي الوراق، وأبو الحسن بن داود الفارسي.
1 / 13
[وصوله إلى بيت المقدس]
وصوله إلى بيت المقدس: وواصل ابن العربي رحلته مع أبيه إلى بيت المقدس، وكان فيها الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي الفهري (٤٥١-٥٢٠) من كبار علماء المالكية الأندلسيين، وهو كابن العربي خرج من الأندلس إلى المشرق فذهب إلى العراق وجاء منها إلى دمشق وبيت المقدس، فلقيه فيها ابن العربي واستفاد منه كثيرا قبل مجيء الطرطوشي إلى الإسكندرية. ويقول ابن العربي فيما نقله عنه صاحب نفح الطيب (١: ٣٤١): تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي حديث أبي ثعلبة (١) المرفوع: «إن من ورائكم أياما للعامل فيها أجر خمسين منكم» . فقالوا: " منهم ". فقال: " بل منكم (أي من الصحابة) لأنكم تجدون على الخير أعوانا، وهم لا يجدون عليه أعوانا ".
وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم قد أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، واقتحموا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا الملة، وقد قال ﷺ في الصحيح: «لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»، فتراجعنا القول، وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح (٢) وخلاصته: أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها- من فروع الدين-يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضا انتهاؤه. . . حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف، وباع نفسه في
_________
(١) هو أبو ثعلبة الخشني، والحديث في باب الأمر والنهي من كتاب الملاحم في سنن أبي داود (ك ٣٦ ب ١٧) وفي كتاب الفتن من سنن ابن ماجه (ك ٣٦ ب ٢١) وفي كتاب التفسير من جامع الترمذي (ك ٤٤ ب ١٨) .
(٢) أي في (كتاب النيرين، في الصحيحين) لابن العربي.
1 / 14
الدعاء إليه، كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معانا عليه بكثرة الدعاء إلى الله. . إلخ.
وفي بيت المقدس أيضا لقي ابن الكازروني وقال عنه: إنه كان يأوي إلى المسجد الأقصى، ثم تمتعنا به ثلاث سنوات، ولقد كان يقرأ في مهد عيسى فيسمع من الطور (١) فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا دون قراءته إلا الإصغاء إليه.
ونقل صاحب نفح الطيب (١-٣٤٠) قوله: " شاهدت المائدة بطور زيتا مرارا وأكلت عليها ليلا ونهار وذكرت الله سبحانه فيها سرا وجهارا " (٢) . . . . وكانت صخرة صلداء لا تؤثر فيها المعاول، وكان الناس يقولون: مسخت صخرة والذي عندي أنها صخرة في الأصل وقطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء وكل ما حولها حجارة مثلها. وكان ما حولها محفوفا بقصور نحتت في ذلك الحجر الصلد، بيوت أبوابها ومجالسها منها مقطوعة فيها (٣) . وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس. . . . إلخ
_________
(١) نبهني صديقي الأستاذ الشيخ محمد صبري عابدين إلى أن مهد عيسى في داخل ساحة المسجد الأقصى بالقرب من السور المطل على مقبرة باب الرحمة، ويشرف عليه طور زيتا المعروف بالطور، وهو جبل يقع شرقي المسجد الأقصى وفيه قرية تعرف باسم الطور (انظر الأنس الجليل ١: ١٥٠ و٢٢٦ و٢٤١ و٢٦٢) .
(٢) كتب إلي فضيلة الأستاذ الشيخ محمد صبري عابدين يقول: وإلى هذا الزمان يوجد مكان في طور زيتا ملحق بمسجد الأسعدية بقرب الطور يقال له (مكان صعود المسيح ﵇ وهو بلاطة سوداء بركانية، وربما كانت هي المائدة المشار إليها في كلام القاضي ابن العربي. وقد رأيتها حين زيارتي لمسجد الأسعدية، وفي المسجد كهف فيه قبور بعض العلماء والصالحين.
(٣) قال الأستاذ الشيخ محمد صبري عابدين يصف الكهف الذي ذكره في التعليقة السابقة: أنه منقوش نقشا بديعا، وربما كان هذا الكهف بما احتوى عليه من فجوات ونقوش هو المكان الذي رآه ابن العربي بجانب مائدة عيسى، ولا أستبعد أن الكهف وما فيه من فجوات كان محلا لاعتكاف بعض الزاهدين، وربما كان هنالك أيضا بعض البيوت المنحوتة طمست بإقامة أبنية جديدة في مكانها.
1 / 15
[مروره بدمشق]
مروره بدمشق: وتقدم ابن العربي في رحلته إلى الديار الشامية، فأقام في دمشق وأخذ عن علمائها، ومنهم شيخ الشافعية الحافظ المتبتل أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي (٤٠٩-٤٩٠) له ترجمة في حرف النون من تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر، وفي طبقات الشافعية (٤-٢٧)، وشذرات الذهب (٣-٣٩٥-٣٩٦) .
وعن الحافظ أبي محمد هبة الله بن أحمد الأكفاني الأنصاري الدمشقي (٤٤٤-٥٢٤) المترجم بحرف الهاء من تاريخ دمشق، وشذرات الذهب (٤-٧٣) وعن أبي الفضل أحمد بن علي بن الفرات المتوفى سنة ٤٩٤ وهو من علماء الشيعة. ولقي في الديار الشامية من علمائها أبا سعيد الرهاوي وأبا القاسم بن أبي الحسن القدسي، وأبا سعيد الزنجاني.
ومن عجائب ما ذكره عن عمران دمشق في زمنه وتقدمها في أسباب الرفاهة والصيانة والنعيم ما نقله عنه صاحب نفح الطيب (١-٣٣٨) وهو أنه دعي لتناول الطعام في بيوت بعض الأكابر، فرأى نهرا جاريا إلى موضع جلوسهم ثم يعود إلى ناحية أخرى. قال " فلم أفهم معنى ذلك، حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا، فأخذها الخدم ووضعوها بين أيدينا. فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني وما معها في النهر الراجع، فذهب بها الماء إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدم من تلك الناحية. فعلمت السر، وإن هذا لعجيب ".
وصوله إلى بغداد واشتغاله بطلب العلم: ورحل مع أبيه من دمشق قاصدا دار الخلافة العباسية بغداد، وكان الخليفة في السنتين الأوليين من هذه الرحلة المقتدي بالله، وكان دينا خيرا قوي النفس عالي الهمة من نجباء بني العباس، وظهرت في أيامه خيرات كثيرة وآثار حسنة. ومن محاسنه أنه نفى المغنيات والخواطئ، وأمر بالمحافظة على حرم الناس وصيانتها، وكانت قواعد الخلافة باهرة وافرة الحرمة. ثم بويع بعده
1 / 16
للمستظهر بالله أحمد وكان مهذبا مثقفا ضليعا في الأدب بليغ التوقيعات (١) إلا أن زمنه كثر فيه الاضطراب. وفي ذلك الجو أخذ ابن العربي في توسيع ثقافته وتلقي العلوم عن أهلها، حتى برع في علوم السنة وتراجم الرواة وأصول الدين وأصول الفقه وعلوم العربية والآداب. وممن تتلمذ لهم: أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي المعروف بابن الطيوري (٤١١ - ٥٠٠) المحدث الصحيح الأصول الواسع العلم. وأبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أيوب البزاز (٤١٠ - ٤٩٢) . وأبو المعالي ثابت بن بندار البقال المقرئ (المتوفى ٤٩٨) . والقاضي أبو البركات طلحة بن أحمد بن طلحة العاقولي الحنبلي (٤٣٢ - ٥١٢) وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي الشافعي (٤٢٩ - ٥٠٧) وكان يسمى " الجنيد " لورعه ودينه، وإليه انتهت رياسة الشافعية في بغداد فأنشد في أحد دروسه:
خلت الديار فسدتُ غير مسود ... ومن العناء تفرُّدي بالسؤدد
ثم وضع المنديل على عينيه وجعل يبكي.
وتحدث ابن العربي عن إمام الشافعية هذا فذكر من محاسنه أنه سمعه ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر ويقول: "يقال في اللغة لا تقرب كذا (بفتح الراء) أي لا تتلبس بالفعل. وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع". قلت وهذا من دلائل صحة العلم وسعة الأفق، فإن العالم لا ينضج حتى يترفع عن العصبية المذهبية ويجنح إلى الحق والخير حيثما كانا، ومن كان الحق غرضه تحراه واحتج له وكان معه في كل حال. أما التعصب للطائفية والمذهب وبنيات الطريق، وتمحل الحجج الواهية لذلك، فمن دلائل صغر النفس وزغل العلم والأنس بالباطل.
ومن الذين أخذ عنهم ابن العربي في بغداد الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون بن مرجا الميورقي العبدري المتوفى سنة ٥٢٤ وكان من فقهاء مذهب
_________
(١) التوقيعات: ما يكتبه الحكام على العرائض من الأوامر الرسمية.
1 / 17
داود الظاهري، قال القاضي ابن العربي: وهو أنبل من لقيته. وأخذ عن أبي الحسين أحمد بن عبد القادر اليوسفي (٤١١-٤٩٢)، وعن شيخ بغداد في الأدب أبي ذكريا يحيى بن علي التبريزي (٤٢١-٥٠٢)، وأبي محمد جعفر بن أحمد بن حسين السراج الحنبلي (٤١٦-٥٠٠) مؤلف كتاب مصارع العشاق. وعن أبي بكر محمد بن طرخان التركي الشافعي (٤٤٦-٥١٣) تلميذ إمام الشافعية أبي إسحاق الشيرازي صاحب التنبيه والمهذب. وأخذ عن مسند العراق نقيب النقباء أبي الفوارس طراد بن محمد بن علي العباس الزينبي (١) (٣٩٨-٤٩١) وكان أعلى الناس منزلة عند الخليفة.
وكان يتردد على مجالس العلم العامة التي تعقد في دار وزير الخليفة عميد الدولة أبي منصور محمد بن فخر الدولة محمد بن محمد بن جهير المتوفى سنة ٤٩٣ وسماه (الوزير العادل) . قال ابن العربي: كنت بمجلس الوزير، فقرأ القارئ: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾ [الأحزاب: ٤٤] وكنت في الصف الثاني من الحلقة بظهر أبي الوفاء بن عقيل إمام الحنابلة بمدينة السلام (٤٣١-٥١٣) وكان (مع إمامته في مذهب الإمام أحمد) معتزلي الأصول (٢) فلما سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على يساري: هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة، فإن العرب لا تقول (لقيت فلانا) إلا إذا رأته. فصرف أبو الوفاء وجهه مسرعا إلينا وقال ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله لا يرى في الآخرة " فقد قال الله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ [التوبة: ٧٧] وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة " قال ابن العربي: وقد شرحنا وجه الآية في (كتاب المشكلين) .
ويقول ابن سعيد أحد مترجمي ابن العربي أن ابن العربي أخذ عن ابن
_________
(١) نسبة إلى جدته الكبرى زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس.
(٢) تأثر بالاعتزال من شيخيه أبي علي محمد بن أحمد بن الوليد الكرخي، وأبي القاسم بن التبان. ولكن شيوخه من أئمة الحنابلة استتابوه بعد ذلك وصرفوه عن كثير مما تأثر به. وأبو الوفاء بن عقيل من كبار أئمة الإسلام. ومن مؤلفاته كتاب الفنون زاد على أربعمائة مجلد.
1 / 18
الأنماطي في الإسكندرية. والمعرفون بابن الأنماطي من العلماء كثيرون في مصر والعراق من أيام المزني تلميذ الشافعي في القرن الثالث إلى أواخر القرن السابع، لكني لم أهتد إلى واحد منهم في الإسكندرية زمن ابن العربي. والعالم المعاصر له من بني الأنماطي هو مفيد بغداد أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنماطي الحنبلي (٤٦٢-٥٣٨) من كبار شيوخ الحافظ أبي الفرج بن الجوزي فلعله هو الذي أخذ عنه ابن العربي في بغداد والتبس الأمر على مترجميه المغاربة فظنوه من بني الأنماطي المصريين (١) .
وفي بغداد لقي ابن العربي محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي (المتوفى سنة٥٢٤) الذي ادعى بعد ذلك المهدوية والنسب العلوي وقام بالتوطئة لعبد المؤمن بن علي (٤٩٠-٥٥٨) وكان المؤسس الأول لدولة الموحدين. ويقول مترجمو ابن العربي: إنه صحب ابن تومرت بالمشرق، فأوصى عليه عبد المؤمن، (٢) ولابد أن تكون هذه الوصاة بعد عودتهما إلى المغرب بزمن طويل، ولا شك عندنا أنه لم ينتفع بها، ولم يكن لها أثر في مجرى حياته. ولعل ذلك من نعم الله عليه، وفي آخر حياة ابن العربي أوذي بجيئته من الأندلس إلى مراكش دار سلطنة عبد المؤمن كما سترى في آخر هذا الفصل.
[اتصاله بأبي حامد الغزالي]
اتصاله بأبي حامد الغزالي: وقد لقي ابن العربي حجة الإسلام أبا حامد محمد الغزالي (٤٥٠-٥٠٥) في بغداد. وفي صحاري الشام بعد ذلك، والذي يظهر لي أنه عند وصول ابن العربي إلى بغداد في بداية رحلته -وكان الغزالي يدرس في النظامية وفي مجالسه العامة -اكتفى ابن العربي بالسماع منه في غمار الناس: ثم حج الغزالي ورحل في سنة ٤٨٨ إلى دمشق متزهدا وألف فيها كتابه
_________
(١) الأنماطي: بائع الأنماط، وهي المفروشات المنزلية، وما يسمى الآن (الموبيليات) .
(٢) نفح الطيب ١: ٣٣٥.
1 / 19