وظهرت على وجهه أمارات الأنفة، والإرادة، والقوة.
ومرت بضع دقائق وأنا أنظر إليه مسرورا بظهور ما كان محجوبا عني، ثم خاطبته قائلا: «أنت مصيب في كل ما قلته، ولكن ألا ترى يا سيدي أن بتشخيصك أمراض الاجتماع وأوصابه قد أبنت لي أنك أحد الأطباء الماهرين، وأنه لا يجدر بالطبيب الإعراض عن العليل قبل أن يشفى أو يموت؟ إن العالم بحاجة ماسة إلى أمثالك، وليس من العدل أن تعتزل عن الناس، وأنت قادر على نفعهم».
فحدق بي هنيهة، ثم قال بلهجة ملئوها القنوط والمرارة: «منذ البدء والأطباء يحاولون إنقاذ العليل من علته، فمنهم من جاء بالمباضع، ومنهم من جاء بالأدوية، والمساحيق، ولكنهم ماتوا جميعا بدون رجاء ولا أمل، ويا ليت عليل الدهر يكتفي بملازمة مضجعه القذر، ومؤانسة قروحه المزمنة، ولكنه يمد يده من بين اللحف، ويقبض على عنق كل من يزوره ممرضا ويخنقه، والأمر الذي يغيظني ويحول الدم في عروقي إلى نار محرقة، هو أن ذلك العليل الخبيث يقتل الطبيب، ثم يعود ويغمض عينيه قائلا لنفسه : «لقد كان بالحقيقة طبيبا عظيما» ... لا يا أخي، ليس بين الناس من يستطيع أن ينفع الناس، فالحارث وإن كان حكيما ماهرا لا يقدر على استنبات حقله في أيام الشتاء.
فأجبته قائلا: «قد يمر شتاء العالم يا سيدي، ويجيء بعده ربيع بهي جميل، فتظهر الأزهار في الحقول، وتترنم الجداول في الأودية».
فقطب ما بين عينيه متنهدا، وبصوت تعانقه الكآبة قال: «ليت شعري هل قسم الله حياة الإنسان - وهي الدهر بكامله - إلى فصول تشابه فصول السنة بمصيرها، وتتابعها؟ هل يظهر على سطح الأرض بعد ألف ألف عام طائفة من البشر تحيى بالروح والحق، هل يأتي زمن يتمجد فيه الإنسان، فيجلس عن يمين الحياة فرحا بنور النهار، وطمأنينة الليل؟ هل يتم ذلك يا ترى، هل يتم بعد أن تشبع الأرض من لحوم البشر، وترتوي من دمائهم؟
وانتصب إذ ذاك واقفا رافعا يمينه نحو العلاء، كأنه يشير إلى عالم غير هذا العالم: «تلك أحلام بعيدة، وليست هذه الصومعة منزلا للأحلام؛ لأن ما أعلمه يقينا يشغل كل فسحة وكل قرنة فيها، بل يشغل كل مكان في هذه الأودية وهذه الجبال، أما ما أعلمه يقينا فهو هذا، أنا كائن موجود، وفي أعماق وجودي جوع وعطش، ولي الحق أن أتناول خبز الحياة وخمرها من الآنية التي أصنعها بيدي. من أجل ذلك تركت موائد الناس، وولائمهم، وجئت هذا المكان، وسأبقى فيه حتى النهاية».
وأخذ يمشي ذهابا، وإيابا في وسط تلك الغرفة، وأنا أتأمله، وأفكر بكلامه، وبالعوامل والبواعث التي صورت له الجامعة البشرية بخطوط عوجاء، وألوان قاتمة، ثم استوقفته قائلا: «إني احترم أفكارك، ومقاصدك يا سيدي، واحترم وحدتك، وانفرادك غير أنني أعلم، والعلم مجلبة الأسف، أن هذه الأمة التعسة قد فقدت بتنحيك، وابتعادك رجلا، موهوبا، قادرا على خدمتها وإيقاظها».
فأجاب هازا رأسه: «ليست هذه الأمة إلا كالأمم كافة، فالناس من جبلة واحدة، وهم لا يختلفون بعضهم عن بعض إلا في الظواهر، والمظاهر الخارجية التي لا يعتد بها، فتعاسة الأمم الشرقية هي تعاسة الأرض بكاملها، وليس ما تحسبه رقيا في الغرب سوى شبح آخر من أشباح الغرور الفارغ، فالرياء يظل رياء وإن قلم أظافره، والغش يبقى غشا، وإن لانت ملامسه، والكذب لا يصير صدقا إذا لبس الحرير، وسكن القصور، والخداع لا يتحول إلى أمانة إذا ركب القطار، أو اعتلى المنطاد، والطمع لا ينقلب قناعة إذا قاس المسافات، أو وزن العناصر، والجرائم لا تصبح فضائل وإن سارت بين المعامل والمعاهد، أما العبودية، العبودية للحياة، العبودية للماضي، العبودية للتعاليم، والعوائد، والأزياء، العبودية للأموات؛ فستبقى عبودية، وإن طلت وجهها، وغيرت ملابسها، العبودية تظل عبودية حتى، وإن دعت نفسها حرية، لا يا أخي ليس الغربي أرقى من الشرقي، ولا الشرقي أحط من الغربي، وما الفرق بينهما إلا كالفرق الكائن بين الذئب والضبع، ولقد نظرت فرأيت مظاهر الاجتماع المتباينة ناموسا أوليا عادلا يفرق التعاسة، والعماوة، والجهالة على السواء، فلا يميز شعبا على شعب، ولا يظلم طائفة على طائفة.
فقلت وقد بلغ بي الاستغراب حد الالتباس: «إذا فالمدنية باطلة، وكل ما فيها باطل».
فأجاب متهيجا: «نعم باطلة هي المدنية، وباطل كل شيء فيها، فما الاختراعات والاكتشافات سوى ألاعيب يتسلى بها العقل وهو في حالة الملل والتضجر، وما تقصير المسافات وتمهيد الجبال والأودية والتغلب على البحار والفضاء غير أثمار غشاشة مملوئة بالدخان لا ترضي العين ولا تغذي القلب ولا ترفع النفس، أما تلك الألغاز والأحاجي التي يدعونها بالمعارف والفنون فهي قيود وسلاسل ذهبية يجرها الإنسان مبتهجا بلمعانها ورنين حلقاتها، بل هي أقفاص ابتدأ الإنسان بتطويق أعمدتها وأسلاكها منذ القدم، غير عالم بأنه لا ينتهي من صنعها إلا ويجد نفسه أسيرا مسجونا في داخلها، نعم، باطلة هي أعمال الإنسان، وباطلة هي تلك المقاصد، والمرامي والمنازع والأماني، وباطل كل شيء على الأرض، وليس بين أباطيل الحياة سوى أمر واحد خليق بحب النفس وشوقها، وهيامها، ليس هناك غير شيء واحد».
صفحه نامشخص