تتمرد طائفة على رئيس دينها، لأمور أولية، فتنتقد شخصه، وتنكر أعماله، وتتبرم من مآتيه، ثم تهدده باعتناقها مذهبا آخر أقرب إلى العقل، وأبعد عن الأوهام والخرافات، ولكن لا يمر ردح من الزمن حتى نسمع بأن عقلاء البلاد قد أزالوا الخلاف بين الراعي ورعيته، وأرجعوا بفضل المخدرات السحرية الهيبة إلى شخص الرئيس، والطاعة العمياء إلى نفوس المرؤسين العقوقين.
يتظلم مغلوب ضعيف من ظالم قوي، فيقول له جاره: «اسكت فالعين التي تعاند السهم تفقأ».
يشك القروي بتقى الرهبان وإخلاصهم، فيقول له زميله: «اصمت فقد جاء في الكتاب اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم».
يعرض التلميذ عن استظهار مباحث البصريين، والكوفيين اللغوية، فيقول له أستاذه إن الكسالى والمتوانين يختلقون لنفوسهم أعذارا أقبح من الذنوب».
تمتنع الصبية عن اتباع عوائد العجائز، فتقول لها والدتها «ليست الابنة أفضل من أمها، فالطريق التي سلكتها تسلكينها أنت أيضا».
يسأل الشباب مستفسرا معاني الزوائد الدينية، فيقول له الكاهن «من لا ينظر بعين الإيمان، لا يرى في هذا العالم سوى الضباب والدخان».
وهكذا تمر الأيام إثر الليالي، والشرقي مضطجع على فراشه الناعم، يستيقظ دقيقة عندما تلسعه البراغيث، ثم يعود ويهجع جيلا بحكم المخدرات التي تمازج دمه وتسير في عروقه، فإذا ما قام رجل، وصرخ بالنائمين، وملأ منازلهم ومعابدهم ومحاكمهم بالضجيج، يفتحون أجفانهم المطبقة بالنعاس الأبدي، ثم يقولون متثائبين: «ما أخشنه فتى لا ينام، ولا يدع الناس أن يناموا» ثم يغمضون عيونهم، ويهمسون في آذان أرواحهم «هو كافر ملحد يفسد أخلاق الناشئة، ويهدم مباني الأجيال، ويرشق الإنسانية بالسهام السامة».
قد سألت نفسي مرات إذا كنت من المستيقظين المتمردين الذين يأبون شرب المخدرات، والمسكنات، فكانت نفسي تجيبني بكلمات مبهمة ملتبسة، ولكنني لما سمعت الناس يجدفون على اسمي، ويتأففون من مبادئي، أيقنت بحقيقة يقظتي، وعلمت أنني لست من المستسلمين إلى الأحلام اللذيذة، والخيالات المستحبة، بل من أولئك المستوحدين الذين تسيرهم الحياة على سبل ضيقة مغروسة بالأشواك، والأزهار محفوفة بالذئاب الخاطفة، والبلابل المترنمة.
ولو كانت اليقظة فضيلة لمنعني الاحتشام عن ادعائها، ولكنها ليست بفضيلة، بل حقيقة غريبة تظهر على حين غفلة للأفراد المستوحدين، وتسير أمامها، فيتبعونها قسر إرادتهم، مجذوبين بأسلاكها الخفية محدقين بمعانيها المهيبة.
وعندي أن الاحتشام في إظهار الحقائق الشخصية؛ هو نوع من الرياء الأبيض المعروف عند الشرقيين باسم التهذيب. •••
صفحه نامشخص