أما الكاهن فظل منتصبا كالتمثال وسط تلك الغرفة بعينين غارقتين بالدموع نحو جثة الصبية الباردة، ويلتفت كل دقيقة نحو زوجها النائم في الغرفة المحاذية.
ومرت ساعة أطول من الدهر، وأشد هولا من الموت، والكاهن واقف بين رجل، وامرأة راقدين ... رجل راقد رقود حقل يحلم بمجيء الربيع، وامرأة راقدة مع الأزمنة الغابرة تحلم أحلام الأبدية.
حينئذ اقترب الكاهن من مضجع الصبية، وجثا أمامها كما يجثو أمام المذبح، ثم أخذ يدها الباردة، ووضعها على شفتيه المرتجفتين، ونظر إلى وجهها المتشح بنقاب الموت، وبصوت هادئ كالليل، عميق كالبحر، مرتعش كآمال البشر قال: «يا راحيل، يا راحيل، يا أخت روحي، اسمعيني يا راحيل فأنا استطيع الآن الكلام، قد فتح الموت شفتي لأبوح لك بسر أعمق من الموت، وأطلق الألم لساني؛ لأكشف لك أمرا أشد من الألم. اسمعي صراخ روحي أيتها الروح المرفرفة بين الأرض واللانهاية، اسمعي الشاب الذي كان يراك راجعة من الحقل فيتنحى محتجبا بين الأشجار خائفا من جمال وجهك، اسمعي الكاهن الذي يخدم الله فهو يناديك الآن بلا وجل؛ لأنك بلغت مدينة الله.
همس هذه الألفاظ، ثم انحنى فوقها، وقبل جبهتها، وقبل عينيها، وقبل عنقها، قبلات طويلة حارة، خرساء «علوية» تبين ما في نفسه من أسرار الحب والألم.
ثم تراجع فجأة إلى الوراء، وارتمى على الأرض مرتعشا كأوراق الخريف، كأن ملامسة وجه المرأة المثلجة قد أيقظت في داخله عاطفة الندم، ثم انتصب جاثيا ساترا وجهه بيديه قائلا في سره: «اغفر ذنبي يا رب، سامح ضعفي يا إلهي، فأنا لم أتجلد حتى النهاية، فالسر الذي أخفته الحياة في قلبي سبعة أعوام قد أباحه الموت بدقيقة واحدة، اغفر لي يا رب سامح ضعفي يا إلهي ...».
وظل على هذه الحالة ينتحب، ويتوجع، ويميل برأسه ذات اليمين، وذات اليسار، ولا ينظر إلى جثة الصبية خائفا على نفسه من خفايا نفسه حتى جاء الصباح، وألقى وشاحه الوردي على تلك الرسوم الهيولية التي تمثل الحب، والدين، والحياة، والموت.
البنفسجة الطموحة
كانت في حديقة منفردة بنفسجة جميلة الثنايا، طيبة العرف تعيش مقتنعة بين أترابها وتتمايل فرحا بين قامات الأعشاب.
ففي صباح، وقد تكللت بقطر الندى، رفعت رأسها، ونظرت حواليها فرأت وردة تتطاول نحو العلاء بقامة هيفاء، ورأس يتسامى متشامخا كأنه شعلة من النار فوق مسرجة من الزمرد.
ففتحت البنفسجة ثغرها الأزرق، وقالت متنهدة «ما أقل حظي بين الرياحين، وما أوضع مقامي بين الأزهار: فقد ابتدعتني الطبيعة صغيرة حقيرة، أعيش ملتصقة بأديم الأرض، ولا أستطيع أن أرفع قامتي نحو ازرقاق السماء، أو أحول وجهي نحو الشمس مثلما تفعل الورود».
صفحه نامشخص