عصر نهضت: مقدمهای بسیار کوتاه
عصر النهضة: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
من الواضح أن كتاب الترانيم اللوثري في لوحة هولباين كتاب مطبوع، فاختراع الطباعة في النصف الأخير من القرن الخامس عشر أحدث ثورة في عالم إيجاد المعلومات والمعرفة وتوزيعهما وفهمهما، وبمقارنة الكتب المطبوعة بالنسخ الشاق وغير الدقيق غالبا للمخطوطات، كانت الكتب المطبوعة تنشر بسرعة ودقة وكميات لم يمكن تخيلها قبل ذلك، ولكن انتشار أفكار جديدة في مطبوعات، لا سيما في الشئون الدينية، كان من شأنه كذلك أن يثير حالة من عدم الاستقرار والشك والقلق، مما يدفع الفنانين والمفكرين إلى مزيد من التساؤل عن هويتهم وكيف أنهم يحيون في عالم سريع التوسع. وتعتبر هذه العلاقة بين الإنجاز والقلق الذي يتمخض عنه واحدة من السمات المميزة لعصر النهضة.
وبجانب كتاب الترانيم الخاص بمارتن لوثر في لوحة هولباين، ثمة كتاب آخر مطبوع يبدو من الوهلة الأولى كتابا دنيويا، لكنه يعرض بعدا آخر قويا من عصر النهضة؛ فهذا الكتاب عبارة عن دليل إرشادي للتجار يتعلق بكيفية حساب الربح والخسارة. ووجوده بجانب الأشياء الأكثر ارتباطا بالنواحي «الثقافية» في اللوحة يوضح أن المال والأعمال في عصر النهضة كانا مرتبطين ارتباطا وثيقا بالثقافة والفن. ففي الوقت الذي يلمح فيه الكتاب إلى «الرباعي العلمي» للمعرفة الإنسانية في عصر النهضة، فإنه يشير أيضا إلى الوعي بأن الإنجازات الثقافية لعصر النهضة قامت على النجاح في مجالي التجارة والمال. ومع ازدياد حجم العالم وازدياد درجة تعقيده، كان لزاما أن تكون هناك آليات جديدة لفهم التداول غير المرئي على نحو متزايد للمال والبضائع؛ من أجل زيادة الربح إلى الحد الأقصى وتقليل الخسارة إلى الحد الأدنى. نتج عن ذلك اهتمام متجدد بفروع المعرفة مثل الرياضيات؛ باعتبارها طريقة جيدة لفهم اقتصاديات نموذج عصر النهضة الآخذ في التحول إلى العالمية.
أما وجود نموذج الكرة الأرضية خلف كتاب الحساب للتجار فيؤكد توسع التجارة والمال بوصفهما سمة مميزة لعصر النهضة. ويعد نموذج الكرة الأرضية واحدا من أهم الأشياء التي تحويها اللوحة. فالسفر والاستكشاف والاكتشاف كانت جوانب ديناميكية ومثيرة للجدل من عصر النهضة، والكرة الأرضية في لوحة هولباين تخبرنا بذلك من خلال تصويرها شديد العصرية للعالم كما كان معروفا عام 1533. فأوروبا كانت مكتوبة بالطريقة نفسها التي كانت تكتب بها آنذاك، وهذا في حد ذاته شيء له مدلول؛ حيث كان القرنان الخامس عشر والسادس عشر هما النقطة التي بدأ فيها تعريف أوروبا بوصفها تمتلك هوية سياسية وثقافية مشتركة. فقبل ذلك، نادرا ما كان الناس يطلقون على أنفسهم «أوروبيين». وهولباين يصور أيضا الاكتشافات الأخيرة التي تمخضت عنها رحلات في أفريقيا وآسيا، وكذلك في رحلات «العالم الجديد» التي ابتدأها كريستوفر كولومبوس عام 1492، وإبحار فرديناند ماجلان للمرة الأولى حول العالم في عام 1522. وقد وضعت هذه الاكتشافات أوروبا في عالم سريع الاتساع، وغيرت كذلك من علاقة القارة بالثقافات والمجتمعات التي احتكت بها.
وكما هو الحال مع تأثير آلة الطباعة، وتأثير الاضطرابات الدينية، فإن هذا التوسع العالمي خلف تراثا ذا حدين؛ فكان أحد نتائجه تدمير الثقافات والمجتمعات الأصلية من خلال الحرب والمرض؛ لأنها لم تكن معدة أو مهتمة باعتناق المعتقدات وسبل المعيشة الأوروبية. وإلى جانب الإنجازات الثقافية والعلمية والتكنولوجية عن تلك الفترة، كان هناك تعصب ديني، وجهل سياسي، وتجارة رقيق، وتفاوت هائل في الثروة والمنزلة الاجتماعية - وهذا ما أطلق عليه «الجانب المظلم من عصر النهضة».
السياسة والإمبراطورية
يقودنا هذا إلى أبعاد أخرى بالغة الأهمية لعصر النهضة تناولها هولباين في لوحته، حيث تحدد هذه الأبعاد الرجلين والأغراض الأخرى ألا وهي: السلطة والسياسة والإمبراطورية. ولفهم أهمية هذه القضايا، وكيفية ظهورها في اللوحة، نحتاج إلى معرفة المزيد عن محتويات اللوحة. فقد كان دينتيفل وسيلف يعيشان في إنجلترا عام 1533 بأمر من الملك الفرنسي فرانسيس الأول. وكان الملك هنري الثامن قد تزوج سرا من آن بولين، وكان يهدد بالانشقاق عن الكنيسة الكاثوليكية إذا رفض البابا أن يطلقه من زوجته الأولى. وكان كل من دينتيفل وسيلف يحاولان منع انشقاق هنري عن روما، وكانا بمثابة وسطاء لفرانسيس في المفاوضات. ومع أن هذه اللوحة - على غرار جانب كبير من تاريخ عصر النهضة - عن العلاقات بين الرجال، فإنه من الملاحظ أيضا أنها تصور في جوهرها نزاعا حول امرأة غائبة، ولكن وجودها ملموس بقوة في الأشياء داخل اللوحة والمحيط. فالمحاولات المستميتة من الرجال لإسكات النساء ما كانت إلا سببا للفت مزيد من الانتباه لمكانتهن المعقدة في مجتمع أبوي: فقد حرمت المرأة من الكثير من مزايا التطورات الثقافية والاجتماعية لعصر لنهضة، ولكنها كانت تضطلع بدور رئيسي في آلية عمل هذا المجتمع، بصفتها من تحمل الورثة من الذكور الذين يضمنون الخلود لهذه الثقافة التي يسيطر عليها الذكور.
كما أن دينتيفل وسيلف كانا في لندن لتنفيذ مهمة أخرى؛ ألا وهي لعب دور الوساطة في التحالف السياسي بين هنري وفرانسيس وبين السلطان العثماني سليمان القانوني؛ القوة العظمى الأخرى في السياسة الأوروبية آنذاك. فالبساط الموجود على الرف العلوي للمنضدة في لوحة هولباين كان من تصميم وصناعة العثمانيين، ويشير إلى أن العثمانيين وأراضيهم الممتدة إلى الشرق كانت أيضا جزءا من المشهد الثقافي والتجاري والسياسي لعصر النهضة. ومحاولات دينتيفل وسيلف لدفع هنري الثامن للتحالف مع فرانسيس وسليمان كان بسبب خوفهم من القوة المتنامية للقوة الاستعمارية العظمى الأخرى لعصر النهضة، وهي إمبراطورية هابسبورج بقيادة شارل الخامس (في إسبانيا). وبالمقارنة، نجد أن إنجلترا وفرنسا كانتا لاعبتين استعماريتين صغيرتين: وهذا ما توضحه لنا الكرة الأرضية في اللوحة، والتي تشير أيضا إلى أن الإمبراطوريات الأوروبية بدأت في اقتسام العالم المكتشف حديثا. وهذه الكرة التي وضعها هولباين في لوحته توضح الخط الفاصل الذي وضعته إمبراطوريات إسبانيا والبرتغال عام 1494، بعد «اكتشاف» كولومبوس لأمريكا.
لقد وضعت هذه الحدود لحل نزاع قائم على أراض في الشرق الأقصى، حيث إن إسبانيا والبرتغال كانتا تحاولان استعمار جزر الملوك - وهي من جزر الأرخبيل الإندونيسي البعيدة - التي كانت تشتهر بإنتاج التوابل التي تدر أرباحا هائلة. وفي عصر النهضة، وضعت أوروبا نفسها في مركز الكرة الأرضية، ولكنها تطلعت إلى ثروات الشرق، بدءا من منسوجات وحرائر الإمبراطورية العثمانية، إلى توابل وفلفل الأرخبيل الإندونيسي. والكثير من محتويات لوحة هولباين لها أصل شرقي، بدءا من الحرير والمخمل اللذين يرتديهما الرجلان، إلى المنسوجات والتصميمات التي تزين الغرفة.
أما الأشياء الموجودة في أسفل اللوحة فإنها تكشف عن جوانب متعددة من عصر النهضة: الإنسانية، والدين، والطباعة، والتجارة، والاستكشاف، والسياسة، والإمبراطورية، بالإضافة إلى الوجود البارز لثروات وعلوم الشرق. وأما الأشياء الموجودة على الرف العلوي فإنها تشير إلى أمور مجردة وفلسفية أكثر؛ فالكرة السماوية هي أداة فلكية تستخدم لقياس النجوم وطبيعة الكون، وبجانب الكرة توجد مجموعة من المزاول، والتي تستخدم لمعرفة الوقت بالاستعانة بأشعة الشمس. وأما عن الأشياء كبيرة الحجم فهي الربعية التي تستخدم لقياس الارتفاع وجهاز لرصد الأجرام السماوية؛ وهي أدوات ملاحية تستخدم في تحديد موقع السفينة من حيث الزمان والمكان. ومعظم هذه الأدوات تم اختراعها بواسطة علماء فلك عرب ويهود، وانتقلت إلى الغرب بعد ذلك عندما احتاج المسافرون الأوروبيون خبرة ملاحية في السفر لمسافات بعيدة. وهذه الأدوات تعكس الاهتمام المتزايد بفهم العالم الطبيعي والسيطرة عليه في عصر النهضة. وكما ناقش فلاسفة عصر النهضة طبيعة عالمهم، فإن الملاحين وصناع الأدوات والعلماء حولوا هذه المناقشات الفلسفية إلى حلول عملية للمشكلات الطبيعية؛ وكانت النتيجة هي ابتكار أشياء مثل تلك الموجودة في لوحة هولباين.
وأخيرا، دعنا نتأمل الصورة المائلة الموجودة أسفل اللوحة والتي يستحيل فهمها إذا نظرنا إليها مباشرة. ولكن إذا وقف الناظر بزاوية ونظر إلى اللوحة، فستتحول الصورة إلى جمجمة مرسومة بوضوح، وهذه من الخدع البصرية الشائعة التي كان يستخدمها الكثير من فناني عصر النهضة، والتي يطلق عليها أنامورفوسيس. ولقد قال مؤرخو الفن بأن هذه الصورة تنتمي إلى فن «فانيتاس» والتي تذكرنا بحقيقة تقشعر منها الأبدان، وهي أنه بالرغم من الثروة والقوة والعلم، فإن الموت مصيرنا جميعا. ولكن تبدو هذه الجمجمة وكأنها تمثل مبادرة هولباين الفنية، بغض النظر عن متطلبات عميله. وتصور لنا هولباين وقد تحرر من قيود هويته كفنان محترف، وتؤكد القوة المتزايدة للرسام واستقلاليته كفنان لديه القدرة على تجربة التقنيات والنظريات الجديدة مثل البصريات وعلم الهندسة في ابتكار صور مرسومة ثرية بالإبداع.
صفحه نامشخص