إن كان غيظي لفوت منكمو فلقد
منيت منكم بما ربي به راضي
قلنا: إن السفاح كان إلى جانب هذه القسوة برا بذوي رحمه، وصولا لهم؛ ولنذكر مثالا لذلك تصرفه مع آل الحسن بن علي الذين بايع بعض العباسيين رجلا منهم هو محمد بن عبد الله - كما بينا من قبل - فقد روى عبد العزيز بن عبد الله البصري عن عثمان بن سعيد بن سعد المدني: أنه لما ولي الخلافة أبو العباس السفاح قدم عليه بنو الحسن بن علي بن أبي طالب؛ فأعطاهم الأموال وقطع لهم القطائع، ثم قال لعبد الله بن الحسن: احتكم علي، قال: «يا أمير المؤمنين، بألف ألف درهم، فإني لم أرها قط.» فاستقرضها أبو العباس من ابن مقرن الصيرفي وأمر له بها.
قال عبد العزيز: لم يكن يومئذ بيت مال، ثم إن أبا العباس أتى بجوهر مروان فجعل يقلبه وعبد الله بن الحسن عنده، فبكى عبد الله، فقال له: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: هذا عند بنات مروان وما رأت بنات عمك مثله قط! قال: فحباه به، ثم أمر ابن مقرن الصيرفي أن يصل إليه ويبتاعه منه، فاشتراه منه بثمانين ألف دينار.
على أن هذا الرفق واللين وهذه السياسة والحكمة لم تنس أبا العباس السفاح ما يجب عليه من مراقبة الطالبيين، والتسمع لما قد يجيش في خواطرهم من الخروج عليه أو الكيد له؛ فإن صلة الرحم من مثل السفاح لا تكون ظاهرة خلقية بقدر ما تكون حيلة سياسية، وكذلك رأيناه يقول لبعض ثقاته وقد خرج من عنده بنو الحسن: «قم بإنزالهم ولا تأل في إلطافهم، وأظهر الميل إليهم والتحامل علينا وعلى ناحيتنا، وأنهم أحق بالأمر منا كلما خلوت بهم، وأحص لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومقدمهم.»
ومما ذكرناه يرى القارئ معنا أن السفاح قد جمع حقا القسوة واللين، وأنه لم يكن في عنفه بأخطر منه في رقته، وإنما كان يلين ليستل سخيمة مدفونة، أو ليستدرج بعض الحاقدين، ويقسو ليري أعداءه أن لا أمل لهم في الكيد لذلك السيف المسلول.
ومهما يكن من شيء، فإن خلافة أبي العباس كانت أقصر من أن تسمح لخصاله وأخلاقه بالظهور والتأثير القوي في سياسة الدولة وسيرة خلفائها.
ولو عمر السفاح لكان من الممكن أن يرسم لخلفائه خطة تجنبهم بعض ما تورطوا فيه من الاضطراب.
هوامش
الفصل الخامس
صفحه نامشخص