222

ومهما يكن من شيء فقد كثف أنصار نصر وعظم خطره حتى ذهب إليه نفر من شيعة الطالبيين فقالوا له: قد وترت بني العباس وقتلت رجالهم، فلو بايعت لخليفة لكان ذلك أقوى لأمرك! فقال: من أي الناس؟ فقالوا: تبايع لبعض آل علي بن أبي طالب، فقال: أبايع بعض أولاد السوداوات فيقول: إنه خلقني ورزقني! قالوا: فتبايع لبعض بني أمية، قال: أولئك قوم قد أدبر أمرهم، والمدبر لا يقبل أبدا، ولو سلم علي رجل مدبر لأعداني إدباره، وإنما هواي في بني العباس، وإنما حاربتهم محاماة عن العرب لأنهم يقدمون عليهم العجم. فتأمل قوله هذا طويلا؛ فهو يميط لنا اللثام عن حقائق يجب أن نقف عليها.

يروى لنا التاريخ أن عبد الله بن طاهر الذي نهد لمحاربة نصر بن شبث كتب إلى المأمون يعلمه أنه حصره وضيق عليه وقتل رؤساء من معه، وأنه قد عاذ بالأمان وطلبه، فأمره أن يكتب له كتاب أمان، فكتب إليه أمانا نسخته: «أما بعد، فإن الإعذار بالحق حجة الله المقرون بها النصر، والاحتجاج بالعدل دعوة الله الموصول بها العز، ولا يزال المعذر بالحق المحتج بالعدل في استفتاح أبواب التأييد، واستدعاء أسباب التمكين حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، ويمكن وهو خير الممكنين، ولست تعدو أن تكون فيما لهجت به أحد ثلاثة: طالب دين، أو ملتمس دنيا، أو متهورا يطلب الغلبة ظلما؛ فإن كنت للدين تسعى بما تصنع فأوضح ذلك لأمير المؤمنين يغتنم قبوله إن كان حقا، فلعمري ما همته الكبرى ولا غايته القصوى إلا الميل مع الحق حيث مال، والزوال مع العدل حيث زال، وإن كنت للدنيا تقصد فأعلم أمير المؤمنين غايتك فيها، والأمر الذي تستحقها به، فإن استحققتها وأمكنه ذلك فعله بك؛ فلعمري ما يستجيز منع خلق ما يستحقه وإن عظم، وإن كنت متهورا فسيكفي الله أمير المؤمنين مؤنتك، ويعجل ذلك كما عجل كفايته مؤن قوم سلكوا مثل طريقك كانوا أقوى يدا، وأكثف جندا، وأكثر جمعا وعددا ونصرا منك، فيما أصارهم إليه من مصارع الخاسرين، وأنزل بهم من جوائح الظالمين.

وأمير المؤمنين يختم كتابه بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله

صلى الله عليه وسلم ، وضمانه لك في دينه وذمته الصفح عن سوالف جرائمك، ومتقدمات جرائرك، وإنزالك ما تستأهل من منازل العز والرفعة إن أنبت وراجعت إن شاء الله. والسلام».

وقد ذهب عبد الله بن طاهر إلى وجهه في محاربة نصر ولبث في مناهدته حتى اضطره إلى التسليم نحو خمس سنين، وفي أثناء هذه المدة سعى المأمون إلى إخماد الثورة من طريق الصلح، فندب جعفر بن محمد العامري ليؤدي رسالة منه إلى نصر يطلب منه فيها ترك الحرب والجنوح إلى السلم.

وقد كاد يتم الصلح بين الفريقين وتحقن الدماء ويذهب عن الناس في تلك النواحي ما أصابهم من فزع وهلع، لولا خنزوانة

2

في رأس نصر قابلتها أخرى، فيما يقول الرواة، في رأس المأمون، حالتا دون هذه الغاية السامية؛ ذلك بأن نصرا قبل ما اقترحه المأمون، لكنه شرط ألا يطأ بساطه، فلما بلغ المأمون هذا الشرط قال: لا أجيبه والله إلى هذا أبدا ولو أفضيت إلى بيع قميصي حتى يطأ بساطي! ثم كتب إليه المأمون بعد ذلك كتابا هذه نسخته:

أما بعد، فإنك يا نصر بن شبث قد عرفت الطاعة وعزها، وبرد ظلها وطيب مرتعها، وما في خلافها من الندم والخسار وإن طالت مدة الله بك؛ فإنه إنما يملي لمن يلتمس مظاهرة الحجة عليه ، لتقع عبره بأهلها على قدر إصرارهم واستحقاقهم، وقد رأيت إذكارك وتبصيرك لما رجوت أن يكون لما أكتب به إليك موقع منك، فإن الصدق صدق والباطل باطل، وإنما القول بمخارجه وبأهله الذين يعنون به، ولم يعاملك من عمال أمير المؤمنين أحد أنفع لك في مالك ودينك ونفسك ولا أحرص على استنقاذك والانتياش

3

صفحه نامشخص