حدث أنه ما كاد الأمر ينتهي على هذه الشروط حتى عادت الفتنة والاضطراب أشد مما كانا عليه؛ ذلك بأن المأمون لغرض سياسي أو لنزعة شيعية أو لتقدير كفاية خاصة استدعى واحدا من سلالة سيدنا علي، وهو «علي الرضا» رضي الله عنه، وهو ثامن أئمة الشيعة أو حزب العلويين إلى «مرو»، واختاره وليا لعهد الخلافة مع أنه يكبره باثنتين وعشرين سنة.
وربما كان المأمون في رأيه هذا صادرا عن رأي وزيره الفضل الذي زين له أن هذه أنجح وسيلة لتسكين ثورة العلويين في الغرب، وربما كانت تنجح هذه الوسيلة في التوفيق بين البيتين العلوي والعباسي قبل استفحال الخلف بينهما.
أما وقد استطار الشر بينهم، وقلب بعضهم لبعض ظهر المجن، ولبسوا جلد النمر وتحفزوا للقتال وتداعوا للجلاد، فإن أمر الوفاق بينهم صار حلما، وعاد الإقدام عليه سخفا وحماقة مهلكة.
وماذا ترتب على إسناد ولاية العهد لفرد من العلويين؟
إن التاريخ يحدثنا أنه ترتب على إسناد ولاية العهد لعلي الرضا أن أمر الخليفة ولاته في جميع أنحاء الدولة بأخذ البيعة لولي عهده، ولكي يجعل المأمون الدولة تصطبغ بصبغة العلويين خلع الشعار الأسود، شعار العباسيين، وارتدى الشعار الأخضر، شعار الشيعة، وأمر عماله بالاقتداء به.
وفي أواخر هذه السنة تلقى الحسن بن سهل من أخيه الفضل أمرا بإعلان ذلك وتنفيذه، فكان لذلك الأمر أسوأ أثر في أهل بغداد؛ إذ وقع عليهم كالصاعقة لأن أهلها كانوا يخافون الشيعة ويمقتونهم، وكذلك شعر العباسيون بأن الضربة موجهة للقضاء على خلافتهم، فشقوا عصا الطاعة وهموا بخلع المأمون واختيار خليفة سواه، ولم يعارض زعماء البيت الملكي من العباسيين في ذلك، فلم تأت آخر جمعة من هذه السنة حتى دعي لإبراهيم بن المهدي على المنابر خليفة بدلا من المأمون، وسرعان ما بويع له بالخلافة، وكان إبراهيم بارعا في الموسيقى والغناء والشعر، ولكن كانت تنقصه المؤهلات التي يستطيع بها أن يضطلع بأعباء الملك التي ألقيت على عاتقه، والتي ناء بحملها مدة سنتين.
ثم ماذا كان بعد ذلك؟
نشب القتال بين جنود المأمون وجنود إبراهيم المغتصب للخلافة، فاضطر الحسن بن سهل نائب المأمون أن يرتد إلى واسط مرة أخرى، وخيل إليه أنه إذا جارى أهل الكوفة في ميولهم الشيعية يستطيع أن يضمها إليه، وبدأ ذلك بأن ولى عليها أحد إخوة علي الرضا، ولم يدر أن التوفيق بين عائلتي علي والعباس في مدينة كهذه متقلبة الأهواء ضرب من المستحيل؛ فإن أهلها كانوا على استعداد في أول أمرهم للقاء الحسن كقائد من صميم العلويين، ولكنهم انتقضوا عليه باعتباره الوالي الفارسي من قبل المأمون؛ وعلى ذلك قامت الثورات في هذه المدينة أيضا كما قامت في غيرها.
ثم ماذا حدث بعد ذلك؟
إن التاريخ يحدثنا أنه بينما كان الغرب غارقا في لجج هذه الفوضى حدث في مرو تغيير جديد ذو شأن؛ ذلك أن المأمون قد تنبه في آخر الأمر لحرج الموقف وخطورة الحالة، ومن الغريب أن أول من نبه الخليفة إلى هذا الخطر المحدق به وبعرش آبائه وأجداده هو علي الرضا نفسه، فتبين المأمون أن ولايته للعهد كانت شؤما على الدولة؛ إذ سارت الأمور فيها من سيئ إلى أسوأ زهاء عام منذ توليه.
صفحه نامشخص