ونحن لا نستطيع أن نرجع مظاهر العطف المختلفة، وفي مناسبات كثيرة، من الرشيد على المأمون إلى الأبوة وحدها، فإن للرشيد أولادا غير المأمون وغير الأمين لم ينالوا شيئا من هذه الحظوة العظيمة لديه؛ لذلك نرى - وقد ترى معنا رأينا - أن هذه الحظوة التي ينالها المأمون من الرشيد في مناسبات كثيرة دون إخوته ترجع إلى ما امتاز به المأمون من نجابة خارقة، وميل إلى جد الأمور، وترفع عن سفسافها، وسمو عن دناياها ، واضطلاع بما يكلف القيام به من أعباء ومهام.
ولعل أظهر مظاهر العطف من الرشيد على المأمون ما فعله الرشيد حين وافته منيته ب «طوس»، من وصيته بجميع ما كان معه من جند وسلاح ومال للمأمون دون أن يكون لخليفته من بعده؛ ليشد بذلك من أزر المأمون، ويقوي من جانبه، وأنت جد عالم بما قدمناه لك، من الكلام في العصر الأموي، عن أثر المال، فتقدر معنا ما كان يرومه الرشيد، ولست في حاجة لأن أقول لك: إن أثر المال وسلطانه في نفوذ الكلمة وقوة الشوكة دونه كل أثر وكل سلطان.
ولعلنا لا نعدو الواقع كثيرا حين نذهب إلى القول بأن الرشيد كان يحذر الخلاف بين الأخوين، ويخاف كليهما على الآخر، يخاف الأمين على المأمون؛ لأن الأمين سيصبح الخليفة الذي بيده قوة الدولة من جند ومال، وتصحبه مزاياها من عظم الهيبة ونفوذ الكلمة، وسيكون مطمح آمال الآملين وموضع رجاء الراجين.
ومن شأن كل هذا أن يجعل الناس جميعا أو الأكثرية الساحقة منهم يلتفون حوله رغبة أو رهبة، وجدير بمن كان هذا شأنه أن يخشى ويتقى.
ويخاف المأمون على الأمين؛ لأن ما امتاز به المأمون من نجابة خارقة، وجد وحنكة، وعرفان بشئون الحياة واضطلاع، واعتداد بنفسه يجعل منه خطرا شديدا على الأمين جديرا بأن يخشى ويتقى أيضا، ويظهر أن كل هذا وقر في نفس الرشيد الذي كان معروفا بالحزم وجودة الحدس، وقوة البصر بالعواقب، فأراد أن يتقيه، ورأى أن خير وسيلة لاتقائه، أن يستكتبهما العهدين، كما قدمنا، فيقطع بذلك أسباب الخلاف بين الأخوين، ويحول دون دس الدساسين، وسعاية الساعين، ويفهم أنصار الفريقين ما للبيعة بين الأميرين من حرمة وتوقير.
غير أن تصرفات الأيام، وآثار البطانة، ونتائج السعاية، ومغبات الرياء والنفاق كانت فوق ما كان يقدر الرشيد، فوقع الخلاف بين الأخوين أعنف ما يكون، ولم يكن ما اتخذه الرشيد من وقاية وحيطة ليصد تياره الجارف.
وكان المأمون الشاب حسن التوفيق في اختيار حاشيته ومشيريه، فجمع حوله طائفة من ذوي الدهاء والحنكة، وهؤلاء وإن كانوا من ذوي المطامع والأغراض قد أخلصوا له النصح، وثقفوه التثقيف الذي يكفل له النجاح، فإن تحقيق أطماعهم الواسعة موقوف على نجاحه.
فإخلاصهم له إخلاص في الواقع لأنفسهم أيضا، ولما كانت أم المأمون فارسية فربما جاز لنا أن نقول: لعل لكونها فارسية أثرا في أن يخلص له هؤلاء المشيرون؛ إذ كانوا كلهم من الفرس، وإذ كانت له بهم هذه القرابة.
وهذا يفسر لنا عاطفة من عواطف المأمون، وهي ميله إلى خراسان، وتعصبه بعض التعصب للخراسانيين؛ إذ يحدثنا التاريخ أن رجلا من الشام اعترض طريقه مرارا وقال: «يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان، فقال له: أكثرت علي! والله ما أنزلت قيسا عن ظهور خيولها إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد، يعني فتنة ابن العامري، وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني حتى تكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على ربها مذ بعث الله نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريا.
3
صفحه نامشخص