ومن أجلى الأدلة على رواج سوق الطبابة في العصر العربي الذهبي ألوف التآليف الطبية الباقية إلى هذا اليوم في المكتبات العامة والخاصة شرقا وغربا. وأدمغ برهان على ذلك أن كلية الطب بباريس حوت عام 1395 فهارس لمخطوطاتها الطبية العربية في اثني عشر مجلدا كلها مؤلفات لأطباء العرب. وكان لويس الحادي عشر ملك فرنسا (1461-1483) شديد القلق على صحته؛ فرغب أن تكون في خزانة قصره كتب محمد بن زكريا الرازي (320ه) الطبية، ولم يكن منها إذ ذاك في مكتبة كلية الطب الباريسية إلا نسخة واحدة، فاستعارها الملك بشرط أن يردها، وقد فعل.
وحسب العرب فخرا أن الدول الأوربية اتخذت كتبهم الطبية دستورا للتدريس في جامعاتها التي سيطر عليها الفكر العربي منذ القرون الوسطى، فنقلت المؤلفات العربية إلى اللغات الأوربية، وظلت الجامعات تدرسها حتى السنة 1650 للميلاد. وأقدم تلك الجامعات جامعة مدينة «سالرنو» بإيطاليا في القرن الحادي عشر للميلاد، وتأسست بعدها جامعات غيرها في بالرمو وبادوا ومونبلية وباريس وبولونيا، إلخ. (10) المارستانات في العصر العربي الذهبي
لم يكتف العرب بالإنتاج النظري في العلوم الطبية، بل استخدموا علمهم أيضا في معالجة المرضى، وتخفيف آلامهم وتأمين راحتهم،
39
فأنشئوا لذلك مستشفيات أو مصحات أطلقوا عليها لفظة «مارستان» من «بيمارستان» الفارسية، وشيدوها في عواصمهم وكبريات مدنهم كمكة المكرمة، والمدينة المنورة، ودمشق عاصمة الأمويين، وبغداد عاصمة العباسيين، والقاهرة عاصمة الفاطميين، والقدس الشريف، وأنطاكية، والري، وسمرقند، وغيرها. ثم عينوا لكل مارستان أوقافا غنية ينفق ريعها في سبيل المرضى والأطباء والأدوية والممرضين، وفوضوا أمرها إلى مدراء أكفياء انتقوهم من أمراء البلاد أو من قواد الجيش أو من سراة القوم.
وأقدم مارستان إسلامي ورد ذكره في التاريخ هو مارستان الفسطاط بالقاهرة ، ابتناه الخلفاء الأمويون إزاء دار عمرو بن العاص بجوار الجامع المشهور باسمه.
40
وكان مركزه في زقاق القناديل شرقي الجامع المشار إليه، واشتمل هذا الزقاق أيضا على سوق للكتب والدفاتر والظرائف وغيرها.
41
وابتنى الخلفاء العباسيون مارستانا كبيرا في بغداد عاصمتهم، وأقاموا له مدراء وأطباء مشاهير، نذكر منهم الحكيم الشهير محمد بن زكريا الرازي المتوفى سنة 320 للهجرة، وكان الرازي في أول أمره متوليا إدارة المارستان في الري، ثم انتقل إلى دار السلام وتولى إدارة «المارستان المقتدري» نسبة إلى الخليفة المقتدر بالله (295-320ه)، ومما يذكر بالشكر والثناء لهذا الطبيب النبيل أنه جمع إلى الطبابة معرفة علوم القدماء «وكان كريما متفضلا، بارا بالناس، حسن الرأفة بالفقراء والأعلاء حتى كان يجري عليهم الجرايات الواسعة ويمرضهم.»
صفحه نامشخص