المادي، وذلك على أساس أن فلسفتي التاريخ عند هيجل وفويرباخ كانتا مفرطتين في الطموح والغموض، ومفرطتين في عدم اهتمامهما بالأسباب والنتائج الاجتماعية القابلة للملاحظة.
ومع ذلك فإن ماركس كان أكثر من مجرد عالم ينسج نظريات للتطور التاريخي، بل كان أيضا مفكرا أخلاقيا ونسبيا؛ فهو قد استخدم نظريته في التاريخ، ليس فقط لإيضاح ما حدث، ولا حتى للتكهن بما قد يحدث في ظروف تاريخية معينة، بل أيضا للتنبؤ بالمصير النهائي للبشر في مجموعهم؛ فالثروة البروليتارية وظهور المجتمع اللاطبقي بمضي الزمن هي بالنسبة إليه نتائج ضرورية للتناقضات الكامنة في الاقتصاد الرأسمالي، وهي نتائج ليست فقط مرجحة الظهور إذا ما توافرت ظروف تجريبية معينة، بل إنها ضرورية الظهور، أو هي - حسب مقصده الحقيقي الباطن - واجبة الظهور. فمن الواجب، في نظر ماركس كما في نظر هيجل، أن يقرأ التاريخ البشري على أنه تطور ضروري ينتقل فيه كل نظام اجتماعي حتما إلى ضده. ولقد كانت نظرته الديالكتيكية إلى التغير - كما هي الحال أيضا لدى هيجل - أقرب إلى القاعدة الصارمة للتحليل الذي يرمي إلى أن يفرض على كل تفكير صحيح أو «معقول» عن التاريخ طابعا ديالكتيكيا واضحا منها إلى التعميم الاستقرائي. وهكذا يندمج العلم والأخلاق والبحث في المصائر
eschatology
في ذهن ماركس، وربما بطريقة لا شعورية، على نحو يمكن أن يعد نظيرا حديثا لما تتصف به العقلية الإنجيلية من مزج قديم بين التاريخ والأخلاقيات والنبوءة. وأية محاولة لإيجاد فصل قاطع بين هذه العناصر كفيلة بحرمان الماركسية من طابعها الصوفي الخاص، ومن جاذبيتها الهائلة من حيث هي أيديولوجية كاملة.
ومن الطبيعي أن ماركس، من الوجهة الشكلية، معارض للدين، وأن فلسفته في التاريخ ترتكز على ميتافيزيقا مضادة للروحية أو مادية. ومع ذلك فإن ماديته تختلف بشدة، في اتجاهها فضلا عن مذهبها، عن نظريات الماديين والطبيعيين السابقين عليه، فمن الملاحظ أولا أن أبحاث الماديين الأوليين، مثل ديمقريطس، كانت تهتم إلى حد بعيد بطبيعة العالم المادي، على حين أن الاهتمام الأول عند ماركس كان منصبا على الإنسان والمجتمع، ولقد نظر الأولون إلى التغير على أنه مسألة حركة أو تغيير في المكان فحسب، متجاهلين تلك التغيرات الكيفية التي كانت أساسية في نظرية ماركس في التطور التاريخي، بل إن نظرتهم الآلية، وبالتالي اللاتاريخية (من وجهة نظر ماركس) إلى التغير، قد حالت بينهم وبين إدراك أن التاريخ عملية غير متكررة، تحدث فيها، في مراحل حاسمة معينة، تغيرات أساسية لا نظير لها في الأسس المادية للتنظيم الاجتماعي.
ولعله لم يكن من قبيل المصادفة أن كثيرا من الماديين القدامى، الذين رأوا أنه لا جديد بالفعل تحت الشمس، كانوا من المسالمين الذين دعوا إلى أخلاق شخصية قوامها الاستسلام والتأمل. أما ماركس فكان داعية متطرفا إلى العمل الإيجابي، لا يستطيع لهذا السبب نفسه أن يقبل أية ميتافيزيقا تبدو قاضية على الأمل في حدوث تحسن أساسي في الظروف المادية لحياة الإنسان. وبعبارة أخرى، فقد كان عليه أن يأخذ التاريخ مأخذ الجد، مدفوعا بنفس الرغبة الشديدة إلى تملكته في الانفصال الحاسم عنه. وأخيرا فقد قال الماديون السابقون عليه بنظرية ذرية في المادة اقترنت في أغلب الأحيان - كما في حالة هبز - بنظرية اجتماعية مماثلة، ترى أن المجتمع مجرد مجموعة من الأفراد لا تتحكم في علاقاتهم بعضهم ببعض إلا قراراتهم أو مصالحهم الفردية. وتبعا لهذا الرأي تتم جميع التنظيمات الاجتماعية على أساس تعاقدي، بحيث ينطوي أي خرق للعقد الاجتماعي على تحلل عاجل للمجتمع ذاته. أما نظرية ماركس الاجتماعية فتقضي بتفسير السلوك الاجتماعي «الهام» للأفراد، لا من خلال القرارات الشخصية المبنية على الاهتمام العقلي بالمصالح الخاصة، وإنما من خلال الأدوار التي يقوم بها هؤلاء الأفراد من حيث هم ينتمون إلى طبقة اقتصادية معينة، وهي أدوار محددة اجتماعيا. ولقد كانت الحالة الطبيعية للبشر في نظر هبز هي حالة «حرب الكل ضد الكل»، وهي حالة لا يزيلها إلا تنصيب حاكم كامل السلطة. أما في نظر ماركس، فإن الصراع هو حقا قانون الحياة البشرية، غير أن نظرته إلى دراسة المجتمع من خلال نظمه العامة جعلته يرى أن الصراع الأساسي اجتماعي، وأن الصورة الأساسية للصراع الاجتماعي هي حرب الطبقات؛ لذلك كان من الضروري ألا ينطوي أي مذهب مادي يكون مقبولا لديه، على استبعاد لإمكانية النظرة الجدية إلى القضية القائلة إن المجتمع يزيد على مجرد مجموعة من الذرات البشرية، التي لا تربطها سويا إلا اتفاقات من صنعها هي.
ولقد وجد ماركس في فلسفة التاريخ عند هيجل إطارا يصلح، «إذا ما قلب رأسا على عقب»، لإيجاد جميع الأسس اللازمة في نظره لأية مادية تاريخية أصيلة. على أنه لم يستطع أن يقبل تفسير هيجل للتاريخ، الذي كان في نهاية الأمر تفسيرا مثاليا، يبدو على الأقل أنه يعزو إلى الأفكار والمثل وحدها قوة متحكمة في التغير الاجتماعي. ففي رأي ماركس أن كل تغير اجتماعي هام إنما هو تغير في الطرق المادية للإنتاج الاقتصادي. ومع ذلك فإن تحليل هيجل الفعلي للتطورات الاجتماعية يلتزم دائما حدود النظم الاجتماعية ذاتها، ونادرا ما كان يرتكب ما يعده ماركس الخطأ الأصيل في الفلسفة الاجتماعية، ألا وهو تفسير دور الفرد في المجتمع على أنه يرتبط فقط بذوقه واختياره الشخصي. فهيجل كان مثاليا، غير أنه كان مثاليا موضوعيا مطلقا، وقد أتاح له هذا الاحتفاظ بمسحة من الروحية في الوقت الذي استبعد فيه عمليا، وبطريقة منظمة، تأثير الأغراض الشخصية في تحديد مجرى التطور الاجتماعي. غير أن الأمر الذي كان له تأثير بالغ في ذهن ماركس هو إمكانية إعادة تفسير الديالكتيك. ولم يعبأ ماركس بميل هيجل إلى الخلط بين التناقض المنطقي والتضاد أو التعارض المادي؛ إذ كان ماركس أقل احتفالا بخصائص المنطق الصوري من هيجل ذاته. وقد لا تكون هناك قيمة للقانون الديالكتيكي الخاص بالقضية ونقيضها، من حيث هو نظرية للاستدلال المنطقي، ولكن هذا القانون أمد ماركس بأداة لا نظير لها لكشف خيوط التطور التاريخي؛ فهو حين فسر هذا القانون «ماديا» بدلا من أن يعده مجرد قانون للفكر، قد كشف لأول مرة عن طريقة عمل الديالكتيك في العالم الواقعي. ولقد كان استخدام هيجل ذاته للديالكتيك يبدو دائما اعتباطيا، لا لشيء إلا لأنه لم يكن يملك الأساس المادي الغني اللازم للقول بوجود ارتباط علي بين القضية ونقيضها، أو بين النقيض والمركب الناشئ. وهكذا كان ماركس يهدف لأول مرة من إعادة تفسير هذا القانون إلى إعطائه معنى محددا قد ينفع في أغراض التفسير العلي الجاد والتنبؤ.
وهكذا سعى ماركس، بجمعه بين الديالكتيك التاريخي عند هيجل وبين المادية، إلى تحويل المادية ذاتها من التفكير الميكانيكي النظري إلى فلسفة للتطور الاجتماعي، وكذلك إلى تحويل الديالكتيك من قانون للفكر يبدو اعتباطيا، إلى قانون فعلي للعلية التاريخية. وربما كان استخدام ماركس للفظ «الديالكتيك» قد أفقد اللفظ أي ارتباط باق بينه وبين معناه الأصلي. غير أن هذه في الواقع مسألة ألفاظ. ورغم أن لفظ «المادة» في أهم معانيه لم يعد عند ماركس يستخدم للدلالة على أساس أو جوهر كامن، وإنما على «المواد
materials » الملاحظة التي يعمل بها الناس ويبذلون عليها طاقتهم. فإن هذا يعبر مرة أخرى عن تحول في اهتمام ماركس من حيث هو مفكر أيديولوجي. وأهم ما في الأمر هو أن الأيديولوجية المسماة ب «المادية الديالكتيكية» - بغض النظر عن صحة التسمية - قد استحوذت على مخيلة الناس إلى حد لم يقدر عليه أي مذهب منذ عهد المسيح.
وطالما ردد ماركس احتجاجه القائل إن استخدامه للديالكتيك كان علميا فحسب. وينبغي أن ننبه في الوقت ذاته إلى أن الديالكتيك، كما وصفه هيجل، كان يتميز بسمات أعجب بها ماركس كثيرا. ومن هذه السمات، تلك المعقولية الكامنة التي عزاها هيجل إليه؛ فقد استطاع هيجل - وربما كان في ذلك متلاعبا بمعنيين للفظ «المعقول» - أن يؤكد أن أية عملية معقولية ينبغي أن تكون مفهومة وصحيحة في الوقت ذاته. ونظرا إلى أن «المفهومية» و«الصحة» متأصلتان في معنى المعقولية ذاتها، فقد استطاع أن يستخدم اللفظ للتعبير عن الإطراء اللاشخصي في نفس عملية تأكيد الطابع المعقول أو الخاضع للقانون في أي تطور اجتماعي. ولقد كان لهذا، من الناحية الأيديولوجية، ميزة كبرى هي إعفاء هيجل من ضرورة التعبير عن موافقته الخاصة على الديالكتيك في صورة حكم قيمة صريح.
صفحه نامشخص