فلكلمة الطبيعة معنيان رئيسيان؛ فهي إما أن تدل على نظام الأشياء كاملا، ومعه مجموع خصائصها، أو على الأشياء كما تكون إذا لم يتدخل فيها الإنسان.
والمذهب القائل بوجوب اتباع الإنسان للطبيعة عقيم بالنسبة إلى المعنى الأول؛ إذ ليس للإنسان قدرة أن يفعل أي شيء سوى اتباع الطبيعة، وكل أفعاله تتم من خلال واحد أو أكثر من القوانين المادية أو الذهنية للطبيعة، وتطيع هذه القوانين.
أما بالمعنى الثاني، فإن المذهب القائل بوجوب اتباع الإنسان للطبيعة، أو اتخاذه من المجرى التلقائي للأشياء أنموذجا لأفعاله الإرادية، لا يقل عن ذلك افتقارا إلى المعقولية والأخلاقية.
فهو يفتقر إلى المعقولية لأن كل فعل إنساني، أيا كان، قوامه تغيير المجرى التلقائي للطبيعة، وكل فعل مفيد قوامه إصلاح هذا المجرى.
وهو يفتقر إلى الأخلاقية؛ إذ إنه لما كان مجرى الظواهر الطبيعية زاخرا بكل ما يبعث على التقزز والنفور إذا ما ارتكبه الإنسان، فإن من يحاول محاكاة المجرى الطبيعي للأشياء في أفعاله يغدو في نظر الجميع وبإقرارهم أشر الناس جميعا.
إن من المحال أن يكون الهدف الوحيد، أو حتى الهدف الرئيسي، لنظام الطبيعة، منظورا إليه في سياقه الكامل، هو صالح الكائنات البشرية أو الكائنات الحاسة الأخرى. وكل ما يجلبه لهم من خير إنما هو ثمرة جهودهم الخاصة. وكل ما يبدو في الطبيعة دليلا على مقصد خير، يثبت أن القدرة التي يتسلح بها هذا الخير محدودة، وواجب الإنسان هو أن يتعاون مع القوى الخيرة، لا بمحاكاة مجرى الطبيعة، بل بالسعي الدائم إلى تقويمه، وإلى التقريب المتزايد بين ذلك الجزء الذي نستطيع السيطرة عليه منها، وبين المثل الأعلى للعدل والخير.
الفصل الثامن
نبي التطور
هربرت سبنسر (1820-1903م)
ظلت النظرة التطورية إلى دراسة الظواهر العضوية، حتى عهد قريب نسبيا، تسيطر لا على علوم الحياة فحسب، بل على علوم الإنسان أيضا. وقد كان لوجهة النظر هذه تأثير عميق كذلك في مجرى التفكير الفلسفي في القرن التاسع عشر؛ ولذا تعين علينا أن نقول في هذه الصفحات شيئا عن نظريات تشارلس دارون؛ ذلك لأن موقع هذه النظريات من الفلسفات العلمية في القرن التاسع عشر، يشبه إلى حد معين موقع النظريات الفلكية والفيزيائية لكبرنك وكيلر وجاليليو ونيوتن من التأملات الفلسفية في العصر السابق.
صفحه نامشخص