وعندما يقال صراحة أو ضمنا إن من الواجب الاتفاق مع الطبيعة أو قوانينها، فهل يكون المقصود بالطبيعة هنا، الطبيعة بالمعنى الأول؛ أي كل ما هو كائن؛ أي قوى الأشياء كلها وخصائصها؟ من الواضح أنه لا حاجة بهذا المعنى إلى توصية للفعل وفقا للطبيعة، ما دامت هي ما لا يملك أحد إلا أن يفعله، سواء أصاب في فعله أم أخطأ. فليس ثمة طريقة للسلوك لا تتفق مع الطبيعة بمعناها هذا، وهذا يسري بنفس القدر على كل طرق السلوك؛ فكل سلوك إنما هو ممارسة قوة طبيعية ما، وتأثيراته أيا كان نوعها، هي بدورها ظواهر طبيعية، تنتجها قوى وخصائص بعض الأشياء الطبيعية، وتتبع فيها بكل دقة واحدا أو أكثر من قوانين الطبيعة. وإنه لمن الممتنع أن نطلب إلى الناس أن يسلكوا وفقا لقوانين الطبيعة، في الوقت الذي لا يملكون فيه من القوة إلا ما منحتهم إياه الطبيعة، وفي الوقت الذي يستحيل فيه عليهم ماديا أن يفعلوا أقل شيء إلا من خلال واحد من قوانين الطبيعة. والأمر الذي يلزم أن يوضح لهم، هو تحديد تلك القوانين الطبيعية التي ينبغي عليهم أن يطبقوها في حالة محددة.
ومع ذلك، فرغم أن من الأمور العقيمة أن تدعو الناس إلى أن يفعلوا ما لا يملكون إلا أن يفعلوه، ورغم أن من الممتنع أن تضع للسلوك القويم قاعدة تتفق تماما مع ما يسري على السلوك المنحرف؛ فقد يكون من الممكن وضع قاعدة عاقلة للسلوك على أساس العلاقة التي ينبغي أن تجمع بين السلوك وبين قوانين الطبيعة بأوسع معنى لهذه الكلمة. فصحيح أن المرء يطيع بالضرورة قوانين الطبيعة، أو بعبارة أخرى صفات الأشياء، ولكنه لا يسترشد بها بالضرورة. ورغم أن كل سلوك متفق مع قوانين الطبيعة، فليس كل سلوك قائما على معرفة بها، وموجها على نحو عاقل إلى بلوغ أهدافه عن طريقها. ورغم أننا لا نستطيع أن نحرر أنفسنا من قوانين الطبيعة في مجموعها؛ ففي وسعنا التهرب من أي قانون بعينه من قوانين الطبيعة، إذا ما استطعنا أن نبتعد بأنفسنا عن الظروف التي يسري فيها هذا القانون. ورغم أننا لا نفعل شيئا إلا من خلال قوانين الطبيعة، ففي وسعنا استخدام قانون مقابل الآخر. وكما يقول بيكون في كلمته المأثورة؛ ففي وسعنا إطاعة الطبيعة على نحو نسيطر به عليها. فكل تغيير في الظروف يغير، إلى حد كثير أو قليل، قوانين الطبيعة التي نسلك بمقتضاها، وفي كل اختيار نقوم به للغايات أو الوسائل، نخضع أنفسنا إلى حد قليل أو كثير لمجموعة من قوانين الطبيعة دون غيرها. وعلى ذلك فلو غيرنا الدعوة العقيمة إلى اتباع الطبيعة، إلى قاعدة لدراسة الطبيعة، وإلى معرفة خصائص الأشياء التي يتعين علينا التعامل معها والاهتمام بها، بقدر ما يتسنى لهذه الخصائص أن تساعد على تحقيق هدف معين أو تعوقه ، فعندئذ يكون قد توصلنا إلى المبدأ الأولي لكل فعل عاقل، أو على الأصح إلى تعريف الفعل العاقل ذاته، ولا ريب عندي في أن هناك فكرة باطنة عن هذا المبدأ الصحيح في أذهان الكثيرين ممن يقولون بالمبدأ الفارغ المشابه له سطحيا؛ فهم يدركون أن الفارق الأساسي بين السلوك الحكيم والأهوج ينحصر في الاهتمام أو عدم الاهتمام بتلك القوانين الخاصة للطبيعة، والتي تتوقف عليها نتيجة هامة ما. وهم يعتقدون أن الشخص الذي يهتم بقانون للطبيعة، كما يصوغ سلوكه وفقا له، يمكن أن يقال عنه إنه يطيعه، على حين أن الشخص الذي يهمله عمليا، ويسلك كما لو لم يكن لمثل هذا القانون وجود، يمكن أن يقال عنه إنه يوصيه. وفاتهم أن ما يسمى عصيانا لقانون للطبيعة إنما هو إطاعة لقانون آخر، وربما لنفس القانون.
ولكن مهما كان مقدار ما يدين به مذهب «اتباع الطبيعة
Naturam sequi » في سلطته وتأثيره للخلط القائم بينه وبين الدعوة المعقولة إلى مراعاة الطبيعة
Naturam observare ، فإن أنصار هذا المذهب والداعين إليه يعنون به قطعا شيئا يتجاوز هذه الدعوة كثيرا. فاكتساب معرفة بخصائص الأشياء، والانتفاع من هذه المعرفة في الاسترشاد بها، هو قاعدة من قواعد الفطنة (
prudence ) ترمي إلى تكييف الوسائل مع الغايات، وإلى تحقيقي رغباتنا ومقاصدنا أيا كانت. غير أن مبدأ إطاعة الطبيعة، أو الاتفاق مع الطبيعة، لا يعد من مبادئ الفطنة أو الحكمة فحسب، وإنما يعد أيضا مبدأ أخلاقيا، بل إنه في نظر من يتحدثون عن «الحق الطبيعي
jus natural »، يعد قانونا جديرا بالتطبيق في المحاكم، وبالتنفيذ عن طريق الجزاءات؛ فالفعل القويم ينبغي أن يعني شيئا يزيد ويختلف عن مجرد الفعل العاقل، ومع ذلك فمن المستحيل ربط أية قاعدة تتجاوز هذه الأخيرة، بكلمة الطبيعة في معناها الواسع الأقرب إلى روح الفلسفة. وإذن فلنجرب معناها الآخر؛ أي ذلك الذي تتميز فيه الطبيعة من الفن أو الصنعة، وتدل، لا على المجرى الكامل للظواهر التي تقع تحت أنظارنا، وإنما على مجراها التلقائي فحسب.
فلننظر إذن إن كان في وسعنا أن نعزو أي معنى إلى القاعدة العملية المزعومة الخاصة باتباع الطبيعة، في هذا المعنى الثاني للكلمة، الذي تدل فيه على ما حدث دون تدخل بشري؛ فهل المجرى التلقائي للأشياء إذا ما تركت وشأنها في الطبيعة، مفهومة بهذا المعنى، هو القاعدة التي ينبغي اتباعها عند محاولة تسخير الأشياء لمنفعتنا؟ من الواضح على التو أن القاعدة بهذا المعنى ليست فقط عقيمة وخالية من المعنى، كما هي حالها في المعنى الآخر، بل إن امتناعها وتناقضها الذاتي واضحان. ففي حين أن سلوك الإنسان لا مفر له من الاتفاق مع الطبيعة بأحد معنيي اللفظ، فإن الهدف والقصد من السلوك هو تغيير الطبيعة بالمعنى الثاني وتحسينها. وإذا كان المجرى الطبيعي للأشياء سليما ومرضيا تماما، فإن مجرد السلوك يكون تدخلا لا جدوى منه، يؤدي حتما إلى زيادة الأمور سوءا طالما أنه لا يستطيع تحسينها. أو أنه لو أمكن تبرير الفعل على الإطلاق، فسيكون ذلك في حالة الإطاعة المباشرة للغرائز فحسب، طالما أنه قد يكون من الممكن حسبان هذه جزءا من النظام التلقائي للطبيعة، وعندئذ يكون أي سلوك يصدر عن روية وغرض، خرقا لهذا النظام الكامل. فإن لم يكن الصناعي
artificial
أفضل من الطبيعي، فإلى أية غاية تسير كل صنائع الحياة وفنونها؟ عندئذ يكون الحفر، والحرث، والبناء، وارتداء الملابس، خرقا مباشرا للدعوة إلى اتباع الطبيعة. •••
صفحه نامشخص