The Communist Manifesto »؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ترتد إلى أساس نظرتي إلى القرن التاسع عشر من حيث هو عصر للأيديولوجية، فليس ثمة شك في المدلول الأيديولوجي المؤكد لكتابات مثل «الحرية»، أو «البيان الشيوعي»؛ فهي كتابات ترمز إلى صراع أيديولوجي ضخم بلغ قمته في عصرنا هذا. ولكن الأمر الذي قد لا تدركه الأذهان بنفس هذا القدر من الوضوح، هو أن المذاهب الأعمق أسسا لدى فلاسفة القرن التاسع عشر تحمل بدورها طابعا أيديولوجيا بالمعنى العام؛ فمن المفارقات العجيبة أن إيمانويل كانت، الذي ظن أنه سدد إلى الميتافيزيقا النظرية ضربة الموت، قد استهل حركة إحياء ميتافيزيقي ضخم في المثالية المطلقة لدى فشته وهيجل. ومع ذلك فقد كانت الميتافيزيقا لديهما، كما سنرى فيما بعد، من نوع لم يكن يحلم به الفلاسفة السابقون. على أن الفارق بين ميتافيزيقا فيلسوف مثل فشته وميتافيزيقا فيلسوف مثل ديكارت أو ليبنتس، ليس فارقا نظريا، وإنما هو فارق يتعلق بدلالة المواقف الميتافيزيقية ومعناها ذاته. وهو أساسا فارق بين نوع من البحث يلتمس معرفة نظرية لأشمل سمات الوجود، ونوع آخر يسعى إلى إثبات الالتزامات الأساسية التي ينطوي عليها كون المرء إنسانا أو كونه شخصا، أو عاقلا، أو متمدينا. فقد نظر ديكارت، وأرسطو من قبله، إلى الميتافيزيقيا على أنها استمرار للأبحاث في العلوم الخاصة، ولا تختلف عن هذه الأبحاث إلا في النطاق والأولوية. أما عند فشته، فإن هدفها ومنهجها عمليان، لا نظريان، في المحل الأول؛ فهي لا تأتي بأوصاف للأمور الواقعة، وإنما ب «أوضاع أو تأكيدات
» أو التزامات أساسية للسلوك في الحياة.
وعلى ذلك فالرأي الذي أدافع عنه لا يقتصر على القول بأن أبرز سمات مذاهب فلاسفة القرن التاسع عشر وأقواها أثرا كانت ذات طابع أيديولوجي في الأساس، بل إني لأذهب في رأيي هذا أيضا إلى القول بأن الفلاسفة قد ازدادوا منذ عهد «كانت» إدراكا لطبيعة الهدف الأساسي للنقد الفلسفي، من حيث هو لا ينتمي إلى «العلم»، بأي معنى معتاد للكلمة، وإنما إلى شيء لا تنطبق عليه إلا كلمة «الأيديولوجية».
أما من حيث ما قدمته من شروح على كل فيلسوف بعينه، فإن ديني عظيم لعشرات من الباحثين، وهو في الحق أكبر من أن أعترف هنا بتفاصيله، فلهم جميعا الشكر على ما اقتبست منهم عن وعي ومن غير وعي. ومع ذلك فبودي أن أعبر عن امتنان خاص لعدة أشخاص؛ أولهم زوجتي «ليليان ودورث أيكن»، التي أبدت حكمة ومساعدة جمة في قراءة كل المسودات المتعاقبة لهذا الكتاب. كما أن صديقي وزميلي «بول زيف» قد قرأ أجزاء كبيرة وناقشني بالتفصيل في عدة فلاسفة ممن كتبت عنهم، فله مني ثناء حار على تشجيعه لي. ويسرني أن أعرب لزميلين آخرين هما «مورتون وايت» و«و. ف. كواين» عن شكري للصحبة العقلية والولاء اللذين أعاناني طوال سنوات عديدة كنت خلالها أتحسس طريقي نحو آفاق فلسفية لا أظن أنها تختلف كثيرا عن آفاقهما. ولقد اعتمدت على «الوعي التاريخي» لدى الأول - وهو أعمق كثيرا مما لدي من هذا الوعي - اعتمادا أعظم مما يعلم. على أن ديني الأعظم إنما هو إلى «رالف بارتون بيري»، الذي أهدي إليه هذا الكتاب بمودة واحترام، والذي استمددت منه أهم ما لدي من معايير التفوق خلال السنوات التي انقضت منذ أول أيام دراساتي العليا بجامعة هارفارد.
لكسنتن
ماساتشوستس. هنري ديفد أيكن
الفصل الأول
الفلسفة والأيديولوجية
في القرن التاسع عشر
تتميز فترة الفلسفة الحديثة الواقعة بين إمانويل كانت وبين إرنست ماخ بأنها فترة مرت فيها الميتافيزيقا - التي كان ديفيد هيوم قد أجهز عليها منذ عهد قريب، وكانت قد أعلن موتها رسميا - بعهد إحياء معجز عادت فيه إلى الظهور في المثالية المطلقة لدى فشته وهيجل، وعاشت حياة جديدة قوية في المذهب الطبيعي التطوري عند هربرت سبنسر، ووجدت، كما يرى البعض، دارها الباقية في المادية الديالكتية عند كارل ماركس. كذلك كان عصر الأيديولوجية فترة بلغت فيها فلسفة التاريخ - وهي أشد المباحث الميتافيزيقية بريقا - أقصى مراحل الازدهار، وأتت معها بمجموعة كاملة من النظريات الطامحة المتعلقة بطبيعة المسار التاريخي ومصير الإنسان. وهكذا يبدو لأول وهلة أن القرن التاسع عشر، على خلاف القرن السابق عليه، كان عصر تأملات غير ناقدة، بل جامحة، في الطبيعة النهائية للعالم الحقيقي، أكثر مما كان عصر نزعة نقدية اجتماعية وسياسية، سلمت بالمبدأ القائل إن الموضوع الصحيح لدراسة الفلسفة، إن لم يكن لدراسة الجنس البشري ذاته، هو الإنسان.
صفحه نامشخص