كانت تلك هي المرة الأولى في حياتي التي أعرف فيها القلق. قطعنا تذكرة البلكون وظللت طول الفيلم والهواجس تنهش عقلي، وأحاول أن أردها بضآلة الفرق بين ما معي وما أحتاج إليه من أجل تذكرة الترام.
لم أتمتع بالفيلم مع أنه كان من أحسن أفلام لوريل وهاردي. وانتهى الفيلم وأضيئت الأنوار والتفت إلى إحسان. ليس هناك إحسان، امحى. ألغاه الوجود. أصبح كأنه لم يولد. لا إحسان على الإطلاق.
وقفت بباب السينما حتى أغلقوا الأبواب ولا إحسان. ماذا أفعل؟
الأتوبيس بقرش تعريفة، ولكنني ساكن جديد بحي العباسية، ولا أعرف إلى بيتي طريقا إلا من محطة الترام. أما أين ينتهي بي الأتوبيس وكيف أذهب إلى بيتي لا أعرف. مشيت إلى شارع فؤاد لأسأل عن محطة الأتوبيس فوجدتها.
هل الأتوبيس الذي يقف هنا يذهب إلى شارع فاروق؟ - لا، ولكن ترام 33 هو الذي يذهب، ومن محطة الترام هذه تستطيع أن تركبه.
المصيبة أن محطة الترام كانت أمام محطة الأتوبيس مباشرة في شارع فؤاد نفسه. ووجدت نفسي أقول في بلاهة: ولكني أريد أن أركب الأتوبيس. ونظر إلي محدثي يبحث عن لهجة أجنبية في كلامي فلا يجد؛ فليس من المعقول أن يفعل هذا إلا سائح ولست به، لا كلامي ولا منظري يدلان على ذلك طبعا. لم يخطر له على بال أن معي تعريفة وليس معي ستة مليمات؛ فالمليم لا يستطيع أن يكون فرقا بأي حال وعلى أية صورة.
وجدت على محطة الأتوبيس صديقا لي من مدرسة المنيرة، ولكن ماذا أقول له هات مليما. أهذا معقول؟ تواريت عنه حتى لا يراني، وجاء الأتوبيس وركبت وسألني الكمساري: أين تريد أن تذهب؟ - العباسية. - أي عباسية؟ - العباسية القريبة من شارع الجنزوري. - تحتاج إلى قرش صاغ.
مصيبة، لم تقدر على المليم، فكيف تقدر على التعريفة كاملا؟ - اذهب بي إلى آخر محطة يوصل إليها هذا التعريفة. وأدرك الركاب الأزمة، وللأسف لم يكن الأتوبيس مزدحما، فكان كلامي يرن في أسماعهم جميعا. والتفتوا إلى صبي يرتدي من الملابس ما يدل على أنه ميسور الحال وليس معه إلا تعريفة. أي شعب عظيم هذا؟ في لحظة واحدة سرت في الأتوبيس معان كثيرة كلها رفيعة وشريفة وجميلة؛ فأنا عند الكبير منهم ابن وعند الصغير أخ، وتسارعوا جميعا إلي، منهم من يريد أن يدفع لي فآبى خجلا شاكرا، ومنهم من يريد أن يصحبني إلى البيت فيزداد خجلي، وأطلب إليهم في لعثمة أن يدلوني على طريق البيت فقط.
ويصل الأتوبيس عند شارع أحمد سعيد، ويأتي إلي الكمساري أن أنزل هنا، وينزل معي بعض الركاب ويقومون جميعا بإرشادي إلى الطريق.
وأسير وأصل إلى شارع الجنزوري، وألتقي في منتصفه بإحسان عفيفي. عاد إلى الحياة من جديد بعد أن حلت المشكلة، كانت على وجهه ابتسامة معتذرة لا تغني شيئا. - أين أنت؟
صفحه نامشخص