ولم يكن جنون هنداوي يتجاوز هذه البطاقات فهو فيما عداها رجل هادئ طيب سهل القياد لا يثور أبدا، ويفهم الحديث إذا دار أمامه.
ومضت الأيام وأنا أحسب أن الزمان لن يجود بمثل هنداوي ثانية، ولكنني فجأة وبغير إعمال فكر مني وجدتني أذكره بإلحاح يأبى أن يتخلى عن فكري أبدا، ورحت أبحث أسباب تذكري له فما طال بي البحث، ولا أعياني التنقيب.
لقد وجدت الغالبية العظمى من حكام العرب كلهم هنداوي، إلا أن هنداوي كان يكتب ما يريد على البطاقة لأنه لم يكن يملك آبار بترول يصدر بها المجلات، ويشتري بها من بضاعتهم الضمير لا القلم، ومن تجارتهم الوطن لا الخلق، ومن عدوهم الدين والإيمان لا الأفراد ولا المبادئ.
إن هنداوي الجديد أصبح بعض حكام. وبطاقات هنداوي أصبحت بعض مجلات. وأبياته التي كان يحسن انتقاءها أصبحت مناسبة للعفن الذي نبت فيه تجار الأقلام والضمير والوطن وأعداء الدين والبشرية والسلام؛ فليس عجيبا أن يكون غثاؤهم بديلا عن عيون الشعر التي كان ينتقيها هنداوي من قراءته أو من قراءة أصدقائه من الأدباء والشعراء.
وفي لفتة أخرى وجد لون آخر من هنداوي هنا في مصر متمثلا في أولئك البهلوانات الذين يسيرون على الحبال في طرقات الصحف وفي جحور الجرذان وفي ظلمات الخفافيش يوزعون المنشورات حافلة بكره مصر وبالاعتداء على مشاعر الإيمان فيها. وإن كان بهلوان السيرك يضع على وجهه بياض الطيبة وحمرة الخجل، فقد لطخوا هم وجوههم بدماء أبنائنا على أرض سيناء، وعشيرتنا في الإسلام على جبال أفغانستان، وإخواننا في البشرية على ثلوج سيبريا وأرض المجر. وبدلا من أن يهاجموا الغاشم يريدون أن يحرقوا السلام في مصر. وبدلا من أن نسمع من تجمع أعداء الدين رأيا في غزو أفغانستان وقتل المسلمين فيها؛ الأمر الذي رفضته جميع الأحزاب الشيوعية في الدول الحرة، نجد الإلحاد هنا يدور ببطاقات هنداوي خالية من الشعر الرصين ومن صورته الطيبة الودود، مخضبة بدم الشرف والخلق والوطنية.
ونجد منهم - وما بغريب أن نجد منهم - من التحى بلحية الإسلام يدرأ بها عن نفسه شبهة الإلحاد، ولكن ما تلبث أفعاله أن تكشفه، وما أسرع ما تسفر أعماله عن حقيقة الكفر الذي يؤمن به.
في هذا الجنون الذي أحاط ببعض حكام العرب وبالخونة في مصر أذكر هنداوي وبطاقاته، وأقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة. لكم ظلمناه حين اعتبرناه مجنونا، ولو أن العمر امتد به لأصبح بين مجانين اليوم من أعظم العقلاء. يرحمه الله.
سقط الصنم
ولم تسقط القاعدة
أتصور أنه في عهد الأصنام هناك فريق من الناس لا عمل له إلا أن يجلس بجوار هبل وغيره من الأصنام يرفع عقيرته بمعجزات الصنم وما يناله قصاده من خير على يديه، داعيا الناس أن يزيدوا من الأموال التي يقدمونها للتمثال، مؤكدا أنهم كلما زادوه مالا زادهم خيرا ومعجزات ومنجزات.
صفحه نامشخص