وكانت الفاجعة الكبرى عندما تحركت قوات المعارضة التي وفقا للاتفاق أن تبقى في الخرطوم لتقوم بهمام الأمن، وأن تثني الحكومة عن النكوص عن معاهداتها، وأن تهدي كل من تسول له نفسه بالخيانة إلى الصراط المستقيم، واتجهت نحو القيادة العامة ثلاث كتائب مدرعة وكتيبة مرابطة قرب الإذاعة بأم درمان اتجهت نحو الإذاعة، وفي ساعة واحدة كانت كل معسكرات الجيش بالخرطوم وأم درمان تخلو من الجنود، الأحياء والشوارع تخلو من المارة، والجثث تحتل فضاء المكان، ومن خلال إذاعة خارجية متنقلة قرأ أحدهم البيان الركيك التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
المواطنون الكرام ، لقد استطعنا بعون الله الانتصار على مجموعة من أعداء الشعب المرتدين عن الإسلام، المدعومين من العدو الصهيوني، الذين حاولوا الاستيلاء على السلطة عنوة، الذين تخيفهم الحرية والديمقراطية ويرعبهم السلام، المطلوب من المواطنين التزام منازلهم، وعلى الجنود الالتزام بثكناتهم وسوف نوافيكم ...
وتكرر هذا الإعلان بصورة مستمرة، وكل مرة تحسن صياغته، ولكن ظل المعنى واحدا والمذيع المرتبك مرتبكا، والمواطنون الكرام يخمنون ما حدث ولا أحد يعرف الحقيقة، والبعض وضع الأمل في إذاعة لندن وفضائيات العالم الأخرى التي لا تزال ...
كانت الشاحنات العسكرية تعبر الطريق السريع ماضية نحو الخرطوم، تبدو واضحة من على البعد، كنا ننظر إليها ونحن على فرع أشجار السيال من المحراب، كانت ثقيلة ومسرعة، مخيفة وغامضة، لا توجد عربة مدنية واحدة تذهب نحو العاصمة.
في اليوم الثالث ظهر الانقلابيون على شاشات التلفزيون العالمية والمحلية، مطأطئي الرءوس زائغي الأبصار، لهم شفاه ناشفة غبشاء، وآذان منتصبة كآذان كلاب الصيد، أسنان بارزة للأمام ليس قليلا، كانوا معروفين لدى الشارع بالاسم والصورة والأفعال والهيئة والسيرة، بصورة جيدة: إنهم الانقلابيون القدامى أنفسهم.
ذهبنا جميعا إلى المدينة نتفقد مواقع عملنا وأصدقاءنا، كانت نوار سعد وأمين محمد أحمد خارج المنزل، اتصلنا بهما كمحاولة أخيرة ولكن لا تزال شبكة الموبايل لا تعمل، أخذنا نتمشى في الشوارع الفارغة.
كتابات: رسائل إلكترونية
نوار سوف أكتب إليك لا أدرى لماذا، هل لأنني لا أستطيع أن أقول لك الشيء قولا، أو أن الشيء لا يمكن أن يقال؟
قضيت هذا الشهر بعيدا عنك، لا أدري متى تسمح لنا الجامعة بالعودة إلى الخرطوم، الآن أدرس مادة الشعر الإنجليزي للطلاب بالكلية، والطلاب كالعادة لا يفهمون إلا من رحم ربه، مصابون بالكسل الذهني ولا يقرءون إطلاقا، يأخذون معلوماتهم من المنتديات والونسات والنقاش العام بالأنشطة، وقد يحفظون خطبا بكاملها من أركان النقاش، لدي تلميذان أتنبأ لهما بغد مشرق في الحياة، أحدهما من أقصى الشمال اسمه صلاح الشايقي، والآخر من الشرق اسمه صالح سعد. لدي تلميذة أيضا تهتم ولكن بقدر أقل، وهي من الأبيض تسكن في داخلية بالخرطوم ، هذه التلميذة تذكرني بك كثيرا، هي فقيرة جدا وجميلة جدا وذكية جدا وطويلة جدا، وتكتب القصص القصيرة، وقد حضرت لك عدة محاضرات عن التشكيل في كوش، سنقضي هذين الشهرين هنا نسجل ملاحظات عن لغة العساكر، وهو بحث اللغويات المقرر في هذا العام للطلاب، وقد كلفت بالإشراف على خمسة من الطلاب. لم أكتب شيئا من الشعر يذكر، فقط هذا المقطع:
صفحه نامشخص