فالتفت المعتصم إلى ضرغام كأنه يستطلعه رأيه، فقال ضرغام: «إني لا أرى ردا على قول قاضي القضاة، ولم أكن لأفطن لما فطن هو له من حسن السياسة، وقد سمع أمير المؤمنين جوابي فإني رجل سيف أصدع بالأمر، فإذا رميت بي أذربيجان أو تركستان أو أرمينيا ركبت إليها ودمي على كفي، ولكن الصواب فيما قاله قاضي القضاة والرأي الأعلى لأمير المؤمنين.»
فقال المعتصم: «قد استشرتكما في الأمر لسببين؛ الأول: أن طلائع الأفشين جاءت تبشر بقرب وصوله، والثاني: أن قد جاءنا جاسوس من أرمينيا بأن بابك الملعون قد استفحل أمره وربما تحرك نحونا، فلا ينبغي أن نمكث هنا في انتظاره.»
قال القاضي: «لا أظنه يجسر على القدوم وإنما هو يقنع بأن نتركه وشأنه، وعلى كل حال أرى أن نحتفل بقدوم الأفشين ونبالغ في إكرامه حتى نفرغ من حاجتنا إليه.» •••
وفيما هم في ذلك سمعوا صوت الأذان لصلاة العصر، فتحفز الخليفة للقيام وصفق فجاء الحاجب فأمره بأن يخبر صاحب وضوئه أنه سيصلي العصر في المسجد الكبير.
فلم يبق لضرغام والقاضي بد من الذهاب إلى الصلاة معه في ذلك المسجد، وكان المعتصم قد بناه وبالغ في إتقانه على شكل لم يسبق له مثيل في الإسلام، فجعل جدرانه من مرايا حتى إذا وقف الخليفة للصلاة رأى من يدخل المسجد من خلفه، وبنى له منارة عظيمة على شكل لولبي مكشوف يصعد إليها على درج لولبي من ظاهرها. ولعل ابن طولون بنى منارة جامعه في مصر على مثال تلك. وكان المعتصم كثيرا ما يصلي في ذلك المسجد لقربه من قصره. فلما تحفز للنهوض استأذن أحمد وضرغام في الانصراف وذهب كل منهما إلى منزله حيث توضأ ويمم المسجد.
دخل الخليفة أولا والناس وقوف للتبرك برؤيته، وفيهم القواد والوزراء حتى إذا دخل المقصورة الخاصة في أثره، وفيهم القاضي أحمد، ومحمد بن عبد الملك الزيات وزيره، وقواده الأتراك الذين ذكرناهم. أما ضرغام فدخل حتى وقف في جملة الحاشية وكانت المرايا في الجدران على شكل غريب يرى الناس صورهم فيها كأن أمامهم مسجدا آخر فيه أناس يصلون، ووقف ضرغام في جملة الواقفين للصلاة.
وبينما ضرغام واقف يصلي وعيناه على المرايا في المحراب يرى الناس يدخلون من الباب وراءه ممن يعرفهم ولا يعرفهم، وقع بصره على رجل لم يكد يتثبته حتى أجفل ولم يتمالك أن التفت إلى الوراء ليتحقق ظنه فإذا هو مصيب في تخيله؛ وكان قد رأى بالمرآة صورة سامان أخي جهان، فاحتال في التقهقر رويدا رويدا حتى دنا من الباب ورآه سامان يتقهقر فسبقه إلى صحن المسجد، فخرج ضرغام في أثره وهو يحدق فيه ويكاد ينكره لما رأى في حاله من التغير. فقد فارقه في فرغانة وعليه لباس أهل الوجاهة مما يعوض عن قبح صورته بعض الشيء، ولكنه رآه هذه الساعة في حالة يرثى لها من الضعف ورثاثة الثوب وقد ربط زنده وعصب رأسه ووقف ذليلا كئيبا، فأثر منظره فيه وأخذته عليه الشفقة وخشي أن يكون قد أصاب جهان سوء فصاح به: «سامان؟!» قال: «نعم أنا سامان يا سيدي.»
فقال: «ما بالك؟ ماذا جرى لك؟ أين جهان؟»
قال: «إذا أذنت لي في خلوة قصصت عليك كل شيء، فقد تعبت من البحث عنك في سامرا، وأخيرا أتيت المسجد لعلي أراك.»
فأشار إليه أن يمشي وراءه في صحن الجامع وقال: «يظهر أنك سألت عني باسمي القديم (ضرغام) وأنا اليوم لا يعرفني أحد بهذا الاسم، وإنما اسمي الصاحب. أين جهان؟ وما لي أراك رث السربال على هذه الحال؟» وكانا قد انتهيا من الصحن إلى بناء مربع على هيئة الكعبة. فرأى الصاحب أن يدخل إليه ليختلي بسامان؛ إذ لم يبق له صبر حتى يصل إلى المنزل، فدخل وأشار إليه أن يجلس على دكة هناك وهو يقول: «أخبرني أين جهان وماذا جرى لكم؟»
صفحه نامشخص