قال: «إني بفضل أورمزد إله الخير الحنون في خير، وكنت أخشى أن يتغلب أهريمان إله الشر فلا أراك، وذلك لشدة ما قاسيته من الألم والضعف. ولكنني شعرت بالراحة منذ علمت برجوعك إلى القصر، وأنت تعلمين أنك تعزيتي الوحيدة في هذا العالم، فلا تفارقي القصر؛ لأني أرتاح لرؤيتك.»
فأرسلت جهان دمعتين دلتا على حنوها وخففتا لوعة أبيها الشيخ المريض وأثرتا في نفسه. وكأنه تصور حال ابنته بعد موته فغلب عليه الحنو فبكى وهو يحاول إخفاء عواطفه رفقا بعواطفها، فابتسمت هي وتجلدت، ولم يفتها ما خالج ذهنه فقالت: «شكرا لأورمزد الشفوق، إني أراك في صحة، وسأصلي له وأتوسل إليه (وأشارت إلى التمثال) أن يعافيك ويدفع عنك المرض، ولا ريب أنه يسمع دعائي.»
فقال: «قد أرسلت أخاك سامان في طلب الموبذ (الكاهن) فإذا جاء صلينا معا.»
فأحست جهان براحة لاتكال أبيها على الصلاة. وليس للإنسان تعزية في مثل هذه الساعة غير الإيمان، فهو وحده خير تعزيه له في الشدائد، بعد أن يعجز عقله وتغل يده عن درئها. ولولا الإيمان لكان حظ الناس من دنياهم التعاسة والشقاء. يدلك على ذلك أن الأرض لم تخل من دين. وما من أمة إلا وهي تدين بشيء ترجع إليه في رد القوي عن الضعيف، وتتعزى به في المصائب التي يضيع فيها الاجتهاد ويعجز عنها العقول، ولا ينجح في دفعها لا مال ولا سلطان، ولا يفيد فيها جند ولا أعوان. وتقصر عن معالجتها مهارة الأطباء، وحكمة الفلاسفة وعلوم العلماء. هذه المصائب لا ينجح فيها غير الإيمان والاستسلام عن اعتقاد صحيح في الدين؛ فالمؤمن يتلقى المصائب بالشكر، ويستقبل الموت ضاحكا مسرورا. وليس أضر للبشرية ممن يضع الشكوك في أذهان العامة؛ لأنها تقتلهم وتذهب بسعادتهم، وهو نفسه، مهما يبلغ من شكوكه أو إنكاره، إذا أصيب بضعف أو خاف على حبيب نفدت حيلته في إسعافه لا يرى مندوحة عن الالتجاء إلى غير الوسائل المعروفة فيستغيث بقوة لا يعرفها. ويتوسل إلى شخص لا يراه ولا يعتقد بوجوده. وقد اختلف الناس في تفاضل الأديان لكنهم أجمعوا على التدين بواحد منها.
فلما رأت جهان اتكال أبيها على الصلاة سكن اضطرابها واطمأن قلبها فقالت: «وهل يأتي الموبذ الليلة؟»
فتنهد وقال: «قد بعثت أخاك في طلبه، ولكن ما أظنه يأتي به لأنه عودني ألا يطابق عمله ما في نفسي.» وكأنه ندم على هذا التعريض فاستدرك وقال: «لا بأس من تأجيل ذلك إلى الغد.»
وشعرت جهان بأن أباها غير راض عن أخيها. وكانت قد لحظت شيئا من ذلك من قبل ولم تعلم سببا لهذا الفتور. وكان المرزبان يبالغ في كتمان ذلك لعلمه بذكاء جهان وسرعة انتباهها وأنها إذا اطلعت على ما في قلبه من أمر أخيها يتكدر عيشها. فسكتت وسكت أبوها حينا، وأخيرا انتبه هو فقال: «اذهبي يا جهان يا حبيبتي إلى غرفتك ، لتبدلي ثيابك وتتناولي عشاءك فإني أشعر براحة وميل إلى الرقاد.»
فنهضت وهي تقول: «ألا تحتاج إلى شيء أقضيه لك يا أبتي قبل ذهابي؟»
قال: «لا أحتاج إلى شيء الآن، وإذا أصبح الصباح وجاء الموبذان علمت شيئا جديدا. اذهبي محفوظة محروسة.»
شغلت جهان بأمر النبأ الذي وعد أبوها بأن يطلعها عليه في اليوم التالي، وتاقت إلى معرفته. ولكن تفكيرها لم يهدها إلى شيء، وقد سرها على أية حال أن أباها لم يذكر «الأفشين». وودت لو سنحت لها فرصة تذكر فيها ضرغاما لعله يذكره بخير فتطلعه على ميلها إليه. وكان أبوها قد عودها ألا تتحرج أمامه من ذكر مثل ذلك، ثم همت بالخروج من حجرة أبيها مؤجلة ذلك حتى يأتي ضرغام لزيارته فتتخذ هذه الزيارة ذريعة للحديث في ذلك الشأن.
صفحه نامشخص