وفي اليوم التالي عاد ضرغام مع وردان إلى معسكر المسلمين فرحب به الأفشين وهنأه بالسلامة وأطرى ما سمعه عن بسالته ليلة الهجوم وبالغ في الإطراء حتى يبعد عنه مظنة السوء. اختصه بالشورى في الشئون الهامة وأهمها يومئذ فرار بابك. وأخبره بما فعله في سبيل القبض عليه.
فقال ضرغام: «إن خادمي وردان أرمني الأصل والوطن، وهو يعرف هذه البلاد فاستخدمه لهذا الغرض. وإذا شئت أتيتك به الساعة.»
قال: «افعل.» فنادى غلاما أمره أن يستقدم وردان، وكان خارج الفسطاط، فلما دخل حيا ووقف فقال له الأفشين: «أتعرف طرق أرمينيا ومسالكها يا وردان؟»
قال: «نعم يا سيدي.»
قال: «أين تظن الخرمي يختبئ وإلى من يلتجئ؟»
قال: «لا أظنه يلتجئ إلى بلد؛ لأن أهل أرمينيا يكرهونه ويريدون قتله، ولكنني أحسبه يختبئ في بعض الغابات أو الأودية وأشهرها الوادي الأكبر المسمى الغيضة، وهو كثير العشب والشجر بين أذربيجان وأرمينيا لا يمكن الخيل نزوله، ولا يرى من يختفي فيه لكثرة شجره.»
فاستفاد الأفشين من هذه المعلومات، وبعث جواسيسه للبحث في تلك الغيضة فعادوا إليه وأكدوا له اختباء بابك هناك. وكان الأفشين قد بعث إلى المعتصم ليستكتبه كتاب أمان لبابك. فلما جاء كتاب الأمان دعا الأفشين بعض الذين أمنهم من أصحاب بابك وأعلمهم بذلك وأمرهم أن يسيروا إليه بالكتاب وفيهم ابنه، فلم يجسر أحد منهم خوفا منه، فقال: «إنه يفرح بهذا الأمان.» فقالوا: «نحن أعرف به منك.» فقام رجلان فقالا: «اضمن لنا رزق عيالنا إذا هلكنا ونحن نذهب إليه.» فضمن لهما ذلك، فسارا بالكتاب حتى أتياه وأعلماه بما قدما فيه، فقتل أحدهما وأمر الآخر أن يعود بالكتاب إلى الأفشين. وكان ابنه قد كتب إليه معهما كتابا فقال لذلك الرجل: «أبلغ ابن الفاعلة أنه لو كان ابني للحق بي، ولكنه ليس ابني، ولأن تعيش يوما واحدا رئيسا خير من أن تعيش أربعين سنة عبدا ذليلا.» وقعد في موضعه. فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زاده وخرج من بعض تلك الطرق، ومعه بعض رجاله، فلم يجد أحدا من الجند الذين أرسلهم الأفشين لمحاصرته، وظن بابك أن القوم يئسوا من القبض عليه فرحلوا. فسار هو وعبد الله أخوه، وأمه وامرأة أخرى، يريدون أرمينيا، فرآهم بعض الحراس فأرسلوا إلى الجند المكلف بتعقبه. وكان أبو الساج هو المقدم عليهم، فلحق بهم وقد نزلوا على ماء يتغذون. فلما رأى بابك العساكر ركب هو ومن معه فنجا وأخذ أبو الساج أم بابك والمرأة الأخرى فأرسلهما إلى الأفشين، وسار بابك في جبال أرمينيا مستخفيا، وكان بطارقة أرمينيا يراقبون سبله فاحتال بعضهم حتى خدعه وأدخله حصنه، وأرسل إلى الأفشين يعلمه بذلك، فبعث الأفشين يعده ويمنيه وهو يأبى الاستسلام. ثم احتال صاحب الحصن عليه حتى أخرجه بحجة الصيد وأنبأ الأفشين بخروجه فتمكنوا من القبض عليه ومعه أخوه عبد الله وحملوهما إلى الأفشين.
فلما قرب بابك من المعسكر صعد الأفشين وجلس ينظر إليه، وصف عسكره صفين، وأمر بإنزال بابك من فوق دابته فنزل ومشى بين الصفين، فأدخله بيتا في برزند، ووكل به من يحفظه، وأنعم على الذين أسلموه، وكتب إلى المعتصم بذلك. فأمره بالقدوم إليه به وبأخيه، فانتقل بهما في جنده وحاشيته من بزرند إلى سامرا (سنة 623ه). وكان المعتصم يوجه إلى الأفشين في كل يوم رسولا يحمل إليه خلعة وفرسا، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون الواثق بن المعتصم. وأنزل الأفشين بابك عنده في قصره بالمطيرة، فأتاه أحمد بن دؤاد متنكرا، فنظر إلى بابك وكلمه ورجع إلى المعتصم فوصفه له، فأتاه أيضا متنكرا فرآه. فلما كان الغد قعد المعتصم واصطف الناس من باب العامة إلى المطيرة، فشهره المعتصم وأمر أن يركب على الفيل فركب عليه واستشرفه الناس إلى باب العامة. فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعادته
يحمل شيطان خراسان
صفحه نامشخص