استنشقت إلينورا نفسا عميقا وتركت المدينة تغمرها، فبدلا من المنظر المحدود الخالي من الحياة التي كانت تراه من نافذتها البارزة، رأت تلك المدينة وهي نابضة بالحياة وتعج بالبشر والصياح والموسيقى ورائحة الخبز. فهناك قبة المسجد الجديد التي على شكل سلحفاة، والمآذن المدببة لمسجد السلطان أحمد، ومنزل البك الذي يحمل اللونين الأصفر والأبيض، وعند ملتقى المياه يوجد قصر السلطان؛ الجوهرة التي تقع في قمة القرن الذهبي بحوائطه الرخامية البيضاء اللامعة وأبراجه البلورية وحدائقه المزينة بزهور الوستارية. عضت باطن وجنتها بينما كان آخر شعاع للشمس يختفي خلف منحنى التل ويطلي حوائط القصر باللون البرتقالي الفاتح المائل نحو الوردي. وعندما اختفى آخر شعاع للشمس، انطلق صوت مدفع من الجانب الآخر للمياه.
قال البك وهو يشير إليها أن تجلس وتشاطره الطعام: «منذ عدة سنوات حظيت بشرف زيارة القصر.»
أعد لها طبقا وسلمها إياه عبر الغطاء الذي افترشه على الأرض المخصص لتلك النزهات. «ولكنك ربما تعلمين ذلك بعد قراءتك للخطابات اليوم.»
توقف ووضع ثمرة زيتون في فمه. «عندما عرضت للمرة الأولى أن أستضيفك أيتها الآنسة كوهين، لا يمكنني القول بأنني كنت مدفوعا بشيء سوى الواجب والوفاء لذكرى والدك. ولكن رغم أن الشهور الماضية كانت صعبة من نواح عديدة، فقد أثبتت أنها من أمتع الأوقات التي يمكن لعجوز عزب مثلي أن يتذكرها.» وتابع قائلا: «أي إنني مستاء من اختلاسك النظر في مراسلاتي، رغم أنني أتفهم الدافع. إنني مدرك أن لديك عددا من الأسئلة حول الخطابات وقضية الكاهن مولر، ولكن قبل أن تتوجهي بتلك الأسئلة أود أن أوضح لك بعض الأمور بقدر الإمكان.»
أخذ قضمة من الشطيرة التي صنعها لنفسه وابتلعها. «هل قرأت شيئا لجان جاك روسو؟»
فهزت رأسها.
فأخذ البك يوضح: «عندما كنت شابا فتنت بأفكار روسو؛ العقد الاجتماعي والمجتمع المدني والإرادة العامة للناس وما إلى ذلك. يمكنك القول إن أفكاره كانت مصدر إلهام بالنسبة إلي، ولم أكن وحدي؛ ففي ذلك الوقت كان ثمة عدد من الشباب مثلي من أبناء رجال الأعمال والمسئولين الحكوميين وضباط الجيش وملتزمي الجباية الذين تلقوا أفكار روسو وأشربوا بها تماما. كونت مجموعة للقراءة تلتقي مرة شهريا، وأصبحت محبوبا بشدة، وكنت أكتب أيضا عددا من المقالات القوية في الصحف مدافعا عن حقوق الإنسان.»
نظر البك في عينيها كي يتأكد من أنها تتابعه. «وكنتيجة مباشرة لروسو ودفاعي عن آرائه أرسلت إلى كونستانتسا، وفي ذلك الوقت كنت عضوا في البرلمان، وكان والدي رجل أعمال ذا شأن؛ حيث كان أحد كبار موردي المنسوجات إلى الجيش. فبدلا من أن يضعني السلطان في السجن كما كان يحب أن يفعل بلا شك، كرمني بمنصب دبلوماسي عند أطراف الإمبراطورية.»
فهزت إلينورا رأسها معبرة عن فهمها. «قابلت والدك في كونستانتسا، وكونت العديد من علاقات العمل المهمة. ولكن قدر استمتاعي بالحياة هناك، فإن إسطنبول هي وطني. وهكذا فعندما هدأ المناخ السياسي عدت مرة أخرى. عدت شريطة ألا أشارك في السياسة مرة أخرى. وبالفعل لم أشارك. ما زلت أحتفظ بآرائي نفسها، ولكن أساليبي تغيرت. فمنذ أن عدت والصدر الأعظم يراقب تحركاتي من كثب، ويمكنني أن أؤكد لك أن شكوكه لا أساس لها من الصحة. إنني لا أدعو إلى ثورة على الدستور، ولم أقم بذلك على الإطلاق من قبل، ولكنني أفهم السبب الذي ربما يدفعه إلى الرغبة في مراقبتي، بسبب ماضي واللغط الذي أثير حول حادث السفينة. ولكنني رغم ذلك لم أشك في الكاهن، ولا أدري لماذا فعل ذلك. ولكن إذا نظرت إلى الأمر بأثر رجعي فإنه يبدو منطقيا. لست أدرى ما إذا كان يعمل لحساب القصر أو الأمريكيين أو كليهما، ولكن على أي حال فلا يمكننا أن نستمر في الدروس. إنك تفهمين الأمر، أليس كذلك؟»
ابتلعت إلينورا طعامها ونظرت إلى البك. كانت تفهم ما يقول، ولكن طنين الأسئلة في عقلها كان كمجموعة من الحشرات محبوسة في برطمان من المخللات.
صفحه نامشخص