جلس الكاهن مولر أمام مكتب الكولونيل، ومد يده في حقيبته فأخرج أنبوبا فضيا صغيرا. تأمل النقوش بامتداد الحافة العلوية، وفتحه ثم أخرج قطعة ملفوفة من الورق، وبسطها في منتصف المكتب، ثم ثبتها من الجانبين بمثقلة الورق. كانت الورقة مغطاة تقريبا بالكامل بالحروف اليونانية، ولكن الكلمات لم تكن يونانية. لم يخبرها عن مصدر هذه الورقة، ولا عن السبب الذي يدعوه ليحتفظ بها في أنبوب مزخرف كهذا.
قال الكاهن: «كما ترين، فتلك الحروف لا تصنع كلمات، حتى ولو كلمات مفهومة بالنسبة إلينا على الأقل. ولكن ثمة نمط، نظام. وهدف هذه الأحجية هو اكتشاف النمط، وهذا هو درس اليوم.»
أمسكت إلينورا برأسها بين راحتي يديها، وحدقت إلى الحروف. استجمعت تركيزها قدر ما استطاعت في نقطة واحدة، وهو ما كانت تفعله عندما ترغب في تذكر شيء ما؛ استشهاد أو قاعدة نحوية أو تاريخ أو كلمة جديدة. كانت بارعة في تذكر الأشياء، وحالما تلتقط شيئا في ذهنها فإنه لا يهرب منها أبدا. ولكن اكتشاف حل تلك الأحجية كان مهمة مختلفة تماما، كتعلم لغة جديدة بلا كتاب، أو كإدراك أن الريش هو الثلج دون أن يخبرك أحد بذلك. زفرت إلينورا أنفاسها، واستقامت في جلستها، وتركت ذهنها يسترخي. وبدلا من التركيز على الحروف، تركت تركيزها يتفرق إلى آلاف من الأشعة الصغيرة. أغلقت عينيها وأرخت إطباق أسنانها، وتركت الحروف تتحرك عبر ساحة الضوء المستمرة التي تتراقص داخل جفنيها. اهتز كل حرف في ذاته بالإضافة لاحتمالات كل الحروف الأخرى بكل اللغات التي تعرفها، وهكذا تكونت الجملة: «الأربعاء وقت الظهيرة، خلف مقهى أوروبا.»
فتحت عينيها مرة أخرى فأبصرت المكتبة والكاهن بأنبوبه الفضي، ورفع الكاهن حاجبيه بينما كانت تكتب الإجابة:
الأربعاء وقت الظهيرة، خلف مقهى أوروبا. «كيف توصلت إلى ذلك؟»
هل تلك هي الإجابة الصحيحة؟
فقال الكاهن وهو يعض على شفته السفلى: «نعم، أعتقد ذلك، ولكن ما يهمني أكثر من ذلك هو كيف توصلت إلى الإجابة.» «تأخذ الرقم المرتبط بكل حرف من الحروف اليونانية، ثم تطرح منه اثنين، ثم تحول الرقم الجديد إلى الأبجدية العثمانية.» «تماما!»
توقف للحظة كي يتأكد من الإجابة، ثم طوى الورقة وأعادها في حامل المستندات، ونهض واقفا يعتذر لها لاضطراره إلى مقاطعة درس اليوم، مؤكدا لها أنه سيعوضه لها يوم الخميس، ثم انصرف.
رغم أن دروس الكاهن قد قدمت لها القليل من العون، فقد كانت حرة في قضاء أيامها كما تحب. اختارت أن تجلس معظم الوقت هادئة في غرفتها تقرأ كتابا، ولكن مع قدوم الصيف والزيادة البطيئة لطول النهار، وعودة الطيور المهاجرة للوجود بانتظام بامتداد البوسفور، ازداد فضول إلينورا بشأن الأشياء المحيطة بها. فرغم أنها لم تكن تنوي مبارحة منزل البك، فقد زادت رائحة براعم المشمش المتفتحة من جرأة جولاتها في الأروقة والغرف الخالية. وذات مساء في أحد أيام الأربعاء قبيل شهر يونيو، داهمتها رغبة مفاجئة في استكشاف جناح الحريم. وضعت المؤشر عند الموضع الذي توقفت عنده في كتاب «التاريخ الطبيعي» لبليني، وهبطت الدرج، ثم انعطفت يسارا أسفل الدرج. وفي نهاية القاعة الرئيسة وراء المكتبة وقاعة الاستقبال وغرفة موسيقى اكتشفتها منذ بضعة أسابيع، وجدت إلينورا نفسها في مدخل جناح الحريم؛ وهو باب شاهق الارتفاع ضيق ذو نقوش على هيئة أشكال سداسية متداخلة.
فتح الباب على ردهة معتمة تفوح برائحة الأتربة وبيوت العنكبوت. كانت غرفة الانتظار لجناح الحريم غرفة رقيقة شاهقة الارتفاع تتناثر فيها قطع الأثاث غير المستخدم والبقايا المهترئة لوسادات من نسيج السندس الوردي، ويسود أرجاءها جو مترب يوحي بالإهمال استطاعت أن تستشعره حتى وهي ما زالت تقف في المدخل. عطست وخطت خطوة داخل الغرفة، ثم أغلقت الباب خلفها. عطست مرة أخرى ومسحت أنفها بطرف كمها، وهنا فقط لاحظت سلما يمتد متقاطعا أعلى الحائط الخلفي. كان هذا السلم يؤدي حسبما تعلم إلى ممر عائم تحت السقف. لم تكن لديها فكرة إلى أين يؤدي الباب، أو ما الذي قد تكتشفه خلفه، ولكن أليس ذلك هو الغرض من الاستكشاف؟
صفحه نامشخص