وعقب أن أعادهم البك مرة أخرى إلى مؤخرة السفينة، اصطدمت السفينة بموجة هوجاء. تعلقت إلينورا بذارع والدها عند الهزة الأولى، وتعلق هو بالسياج. أخفى يعقوب تقطيب جبينه ثم استدار كي يتوجه إلى ابنته بسؤال. بدا كما لو كان قد انزعج لمقابلة شبح، فقد غارت وجنتاه وأصبح وجهه شاحبا كلون فستانها، وتمتم بشيء عن دوار البحر، ثم أمسك بمعدته واندفع إلى مقدمة السفينة، فكادت قدمه تزل على مجداف غير مربوط. «معذرة.»
وبينما ابتعد وقع خطوات والدها، حملت الرياح صوت أغنية «عيد ميلاد سعيد» من مقدمة السفينة. رمشت إلينورا بعينيها، وفتح البك فمه كي يتحدث، ثم ترنحت السفينة كما لو كانت قد اصطدمت بصخرة، وبين الصرخات أسفل سطح المركب أخذت السفينة تغرق سريعا.
الفصل العاشر
أتى الصباح مخنوقا في ركام من زغب الإوز والأشباح، واختلط وقع الخطوات الخافتة بالهمسات، واندفع سرب صغير من غربان البحر فوق الماء كالدمى المتحركة، واختلط نعيبهم بنداءات باعة الخبز في الصباح الباكر. وبمرور الوقت، اختفت تلك الصيحات المنعزلة في زحام المدينة وقعقعة العربات وباعة السمك ودعاء المؤمنين عن بعد والنباح الحزين للكلاب الضالة وكل ما يدل على أن الحياة وإسطنبول سوف تستمران. رغم كل شيء سوف تستمر الحياة، وسوف تستمر إسطنبول.
بينما تسلل الصباح إلى غرفتها، رقدت إلينورا وقد ضمت أطرافها كورقة شاي جافة، مغطاة بكومة متشابكة من المفارش وهي تتنفس الأنفاس القصيرة المتقطعة التي تميز النوم المضطرب. جذبتها نقرة على الباب من عالم الأحلام، ولكنها أفاقت بما يكفي كي تعرف أنها ترغب في العودة إلى النوم. سمعت صوت أكثر من خف منزلي عند الباب وطرقا معدنيا مكتوما على حافة فراشها، ثم شعرت بيد السيدة داماكان النحيلة الخشنة تستند على مؤخرة عنقها. ارتجفت إلينورا بينما انتشر دفء هذا الجسد في أطرافها.
قالت السيدة داماكان: «إفطارك على مائدة الفراش.» ثم جرت قدميها متثاقلة خارج الغرفة.
انتظرت إلينورا إلى أن سمعت الباب يغلق ثم انقلبت على ظهرها مرة أخرى. كانت رائحة البيض المسلوق والخبز المسطح تتسلل إليها من تحت غطاء صينية الإفطار، ولكنها لم تكن تشعر بالجوع على الإطلاق. جذبت البطانية على رأسها، وأغلقت عينيها وضمت أطرافها مرة أخرى على هيئة كرة. كان رأسها يرتج بقوة داخل عظام جمجمتها، وجدار معدتها يضطرب خوفا. كانت قد استيقظت تماما الآن، ولكن ذكرى الليلة السابقة كانت لا تزال متذبذبة باهتة، كما لو كانت قافلة جمال ترتفع فوق أفق كثيب ضخم من الرمال. برودة الماء العذبة، وقنديل بحر يلدغ كاحلها، وذراع البك المشعرة الممتدة، وفجأة إدراك حقيقة أن والدها قد مات.
شعرت بالغثيان، وبأن معدتها تصعد إلى حلقها، وأطلقت زفيرا حتى فرغت رئتيها من الهواء، ثم ملأتهما بالهواء مرة أخرى. كانت ضربة قاضية، مأساة محطمة من النوع الذي نعزي أنفسنا بأنه يحدث للآخرين فحسب، أو لأبطال الروايات، أو للجيران، أو للمساكين الذين نقرأ عنهم في الصحف. ولكن ها هي المأساة تحدث لها. تشبثت بالوسادة عند بطنها، وحدقت إلى غطاء الدانتيل الأبيض الذي يعلو فراشها. لقد توفي والدها، وهو يرقد الآن جثة هامدة في قاع البوسفور، أو وسط كومة من الأجساد على الشاطئ، أو مدفونا لتوه في باطن الأرض، أو في مكان آخر لا يمكنها أن تتخيله، ولكنه ميت على أي حال. قلبت الفكرة في ذهنها مرارا وتكرارا من وجهات نظر مختلفة ، ولكن التفكير في ذلك كان كالنظر إلى الشمس، يجعلك تفقد بصرك بينما تحاول الرؤية.
طوال ذلك الصباح ظلت دوامة من الأسئلة الخبيثة تحوم حول فراشها كالغربان، وتحط بعنف كي تهمس في أذنها. ماذا عن الهدهد الذي أتاها على حافة النافذة؟ وماذا عن رغبتها في البقاء في إسطنبول؟ أيمكن ألا يكون حادث السفينة ووفاة والدها وحوالي أربعة وعشرين شخصا آخرين حادثا؟ أيمكن أن تكون أمنيتها ورغبتها الطفولية في البقاء في إسطنبول هما ما تسببتا في كل ذلك؟ ارتجفت إلينورا وجذبت الوسادة على رأسها. كانت ترغب في أن تنام وتستيقظ لتجد كل شيء قد عاد لطبيعته، أو على الأقل أن تبعد هذه الأسئلة عن ذهنها بضع ساعات. ولكن مهما تكن رغبتها، فالقدر ثابت لا يتزحزح، وتبعتها تلك الدوامة السوداء البغيضة إلى أحلامها بإلحاح ومرارة.
في وقت ما من ذلك المساء، أو ربما كان في مساء اليوم التالي، قرع البك باب غرفتها وناداها باسمها. كانت مستيقظة ولكنها لم تجب، لم تكن تشعر بالرغبة في الحديث، بل إنها لم تكن تشعر بالرغبة في أي شيء سوى أن ترقد في الفراش، وحتى ذلك لم يكن إلا لأنها لا تجد خيارا أفضل. وبعد أن قرع الباب وناداها مرتين أخريين، فتح البك الباب. كان يرتدي حلته وربطة عنقه الزرقاء المجعدة المعتادة، ولكن وجهه كان متغضنا وعيناه غائرتين إرهاقا. لم يلاحظها في بادئ الأمر، فقد كانت غارقة تحت كم من الأغطية والوسائد كثعلب خائف يختبئ في تجويف شجرة، ولكن أعينهما تلاقت أخيرا. تبادلا النظر فترة طويلة قبل أن يغلق الباب خلفه ويجلس على المقعد المخملي الأحمر بجوار فراشها. «لقد حاولت أن أتصل بخالتك روكساندرا.»
صفحه نامشخص