مرر السلطان إبهامه على حافة الوسادة.
ثم تساءل: «وهل إدارة الدين العام معنية بالأمر؟» «أعتقد أنهم سوف يرغبون في ذلك.»
كز عبد الحميد على شفته وهز رأسه، فإدارة الدين العام تعد انتهاكا صريحا لسلطته، ولكن لم يكن ثمة ما بوسعه أن يفعله للإطاحة بها؛ فالإمبراطورية غارقة في الديون، وتلك هي الشروط التي توصلوا إليها لسداد الديون، أو في حقيقة الأمر تلك هي الشروط التي فرضت عليهم.
استأنف جمال الدين باشا حديثه قائلا: «إذا كنا نريد تطوير المناطق النائية، فعلينا أن نسهل تدفق البضائع بانتظام.»
قال السلطان بحدة: «إنني على دراية بالحجج التي تؤيد بناء السكة الحديدية، كما أدرك رغبة برلين في الربط بين إسطنبول وبغداد، تماما كما أدرك ميلك نحو القيصر. ولكنني أطلب منك ألا تقاطع أفكاري.» «معذرة يا فخامة السلطان، أعتذر لجلالتك.» «يمكنك أن ترسل الدعوة. قم بذلك في الحال.»
فقال الصدر الأعظم وهو يهب واقفا: «حسنا، سأقوم بذلك يا جلالة السلطان.»
رغم أن السلطان كان يعلم أنه لا داعي للتمسك بالشكليات مع مستشاريه، فقد شعر بالاضطراب إلى حد ما بعد هذا الحوار، وداهمته الرغبة في أن يخرج ليستنشق بعض الهواء النقي. هز رأسه محييا حراس القصر على جانبي أريكته، وخرج من الباب الخلفي لغرفة المقابلات، وأخذ منظاره الميداني الجديد من مكتبة أحمد الثالث، ثم تسلل بين حوائط جناح الخدم إلى حديقة التوليب. كان صباحا مشرقا على غير العادة في ذلك الوقت من العام، ورغم أن أزهار التوليب لم تكن قد تفتحت بعد، فقد أضفت أشعة الشمس الثابتة الدفء على الأرض كما لو كانت عاشقا قديما. كان الهواء يلفح وجهه بشدة وهو يتجول بين أزهار التوليب النائمة وحول ظلة بغداد وصولا إلى حديقة الفيل. إن الحاكم الناجح بحاجة قبل كل شيء إلى أن يظل على مسافة مناسبة من الأحداث التي تقع داخل ملكه، فإذا ترك نفسه فريسة للقلق بشأن تفاصيل كل معركة وكل مشروع للبنية التحتية، فلن يتمكن من التركيز أبدا على القرارات المهمة. وللأسف، فإن الصدر الأعظم قد أثبت مرة تلو الأخرى أنه عاجز عن إدراك ذلك المفهوم.
توقف عبد الحميد كي يسوي قفطانه، وجلس على المقعد أسفل أيكته المفضلة من شجر القراصيا. لم يكن ذلك هو الوقت المناسب من العام لمشاهدة الطيور، ولكن من يدري؟ فتح العلبة المبطنة بالحرير الأزرق، وأخرج منظاره الميداني وتفحص طول مضيق البوسفور. كان هذا المنظار الميداني الجديد الذي صنعه إميل بوش نفسه بناء على أمر خاص، أكثر وضوحا بمراحل من كل ما استخدمه من قبل، ولكن لم يكن ثمة الكثير مما يمكن رؤيته؛ بضعة نوارس تحوم حول المجثم، وبرج جالاتا المزود بفتحات للرمي، ونسر ذو ذيل أبيض يجثم على مئذنة مسجد علي باشا. كان السلطان على وشك أن يضع المنظار عندما رأى شيئا غريبا؛ سربا من الهداهد على ما يبدو، ذا ألوان مميزة من الأرجواني والأبيض، يجتمع حول منزل بالقرب من بيشكطاش بير. راقبه السلطان عدة دقائق، متعجبا مما جذب السرب إلى هذا المجثم تحديدا. ففضلا عن اللونين الأصفر والأبيض الزاهيين للواجهة، لم يستطع أن يجد سببا يجذب السرب إلى هذا المنزل، خاصة في ذلك الوقت من العام.
عندما أعاد السلطان منظاره إلى علبته، فوجئ بزوج من الهداهد الأرجوانية البيضاء نفسها جاثم على فروع الشجرة القائمة فوقه. كانا يتحدثان ويتناولان فتات البراعم البيضاء الوحيدة التي خدعت في دفء الأيام الماضية ظنا منها أن الربيع قد حل. حدق عبد الحميد إلى أعلى ناظرا إلى الطائرين، وتتبع رفرفتهما من غصن إلى آخر. كان مولعا بطائر الهدهد منذ رحلاته الأولى لمشاهدة الطيور عندما كان أميرا شابا؛ فهو طائر ملكي رائع يتمتع بالعظمة والأناقة اللازمتين للملوك، ولكنه في الوقت نفسه أحد أنواع الطيور الأكثر وعيا، لا يتحرج من الاغتسال في التراب أو بناء عشه من الفضلات. إنه يذكر أن الهدهد هو ما كان حلقة الوصل بين ملكة سبأ والملك سليمان، والهدهد أيضا هو ما أقنع الطيور الأخرى بالانطلاق بحثا عن سيمرج العظيم (في الأسطورة الفارسية، وهو وحش ضخم مجنح على شكل طائر يعيش في الماء ويعتقد أنه يملك حكمة كل العصور)، وذلك في قصيدة فريد الدين العطار الشهيرة. لم يكن عبد الحميد بارعا فيما يتعلق بالأسماء اللاتينية، ولكنه كان دوما يتذكر الاسم اللاتيني للهدهد: أوبوبا إيبوبس. «أوبوبا إيبوبس.»
وبينما كان يتلفظ بالاسم بصوت عال، وثب الطائر الأصغر إلى الغصن الذي يعلو رأسه مباشرة، وحدق الاثنان أحدهما إلى الآخر لبرهة قبل أن يرفرف الهدهد لأسفل ويحط بجواره على المقعد. أمال الطائر رأسه كما لو كان يترقب شيئا أو يتساءل عن شيء، ثم وثب مقتربا منه. لم يكن عبد الحميد واثقا مما يريده الهدهد، ولكنه اقتطف برعما من الفرع الذي يعلوه وقدمه له. وثب الطائر مرتين ثم حمل البرعم في فمه، كما لو كان هذا ما ينتظره بالضبط، ثم حلق بعيدا عبر المضيق.
صفحه نامشخص