قالت وهي تسكب الماء في المغطس: «عندما رحلت عن كونستانتسا، لم تكوني قد تجاوزت طول ذراعي، والآن ها أنت شابة يافعة.»
نظرت إلينورا إلى نفسها واحمرت خجلا، فلم يرها أحد عارية منذ فترة طويلة؛ ففيما عدا الأعوام الأولى من حياتها كانت تغتسل بنفسها وتبدل ثيابها وهي وحيدة في غرفتها. ولكن ذلك الخجل سرعان ما تلاشى في دفء حضور السيدة داماكان. تمسكت إلينورا بالحافة الخزفية الباردة، ودلت ساقيها في المغطس. كانت المياه أكثر سخونة مما توقعت، ولكن بعد بضع لحظات من الشعور بالحرارة اللاسعة نزلت منزلقة للخلف، وبدأت تستمتع بالبخار على وجهها والرائحة الزكية لصابون زيت الزيتون والماء الساخن يتخلل عظامها. أخذت السيدة داماكان تفرك جسد إلينورا بلوفة مبللة بالصابون برقة في بادئ الأمر، أو تقريبا بحذر، ثم بقوة متزايدة على ظهرها وساقيها وذراعيها ورقبتها وبطنها، وذلك بالقوة التي تجلي بها عاملة غسل الأطباق القدر كي تزيل الأرز الملتصق بقاعها.
وبعد ذلك تدثرت إلينورا بمنشفة بيضاء سميكة، وشعرت كما لو كانت طفلة رضيعة ولدت من جديد، وكأن المشقة والقلق اللذين عانت منهما الأسبوع الماضي قد ذهبا بالفرك، ويدوران الآن في دوامة المصرف مع مياه الاستحمام. كانت لا تزال تشعر بالتعب وعظام فخذها بارزة كأوتاد الخيمة، ولكنها شعرت كما لو كانت شخصا جديدا. «والآن، نأمل أن يناسبك هذا.»
استدارت إلينورا ورأت السيدة داماكان تقف خلفها، وثوب أزرق مخملي جميل يتدلى على ذراعها. وبعد أن أعطت إلينورا مجموعة جديدة من الملابس الداخلية، ساعدتها في ارتداء الثوب وإغلاق أزراره من عند الظهر. وبينما كانت السيدة داماكان تغلق الكبشة الأخيرة، قرع السيد كروم كبير الخدم الباب المفتوح، ودون أن يتفوه بكلمة أرشد إلينورا إلى غرفة الطعام بالطابق السفلي. كان والدها والبك قد جلسا بالفعل، ولكنهما نهضا واقفين عندما دخلت.
قال البك: «تبدين فاتنة.» وجذب المقعد المجاور له مشيرا إليها بأن تجلس: «هذا الثوب بالفعل يناسبك تماما.»
شعرت إلينورا بالخجل من مجاملات البك، فجذبت ياقة ثوبها المصنوعة من الدانتيل بعيدا عن عنقها، ونظرت إلى والدها. كان قد ارتدى أفضل ثيابه، وارتسمت على وجهه الذي اصطف فيه شارب مهذب حديثا ابتسامة فخر وهو يعبر إلى الناحية الأخرى من المائدة كي يضغط على يدها. «تبدين جميلة يا إيلي.»
وبعد برهة خرج السيد كروم من المطبخ يحمل ثلاث دجاجات مشوية ترقد على مهاد من الأرز بالزعفران. وبطبيعة الحال، كانت إلينورا ستولي المزيد من الاهتمام للحوار الدائر عن العمل والمشهد السياسي في إسطنبول، ولكن لما كانت تتضور جوعا فقد اقتصر اهتمامها على لحم الدجاجة الرطب المقرمش وحبيبات الزبيب الصغيرة المنتفخة المدفونة في الأرز. ورغم ذلك فقد استمعت مصادفة إلى جزء من الحوار الذي كان والدها والبك يناقشان فيه ظروف ابنة أخي السيدة داماكان التي ظلت في خدمة البك سنوات عديدة قبل أن تتزوج من شاب تتاري يعمل حدادا خارج سميرنا. كان الثوب الذي ترتديه إلينورا في حقيقة الأمر يخص ابنة أخي السيدة داماكان منذ زمن بعيد. وبعد تناول حلوى السفرجل، ذهب الرجلان إلى المكتبة وصعدت إلينورا إلى الطابق العلوي مرهقة كي تخلد إلى النوم.
وفي الصباح التالي، بعد أن أخذوا قسطا من الراحة وجددوا نشاطهم، استقلوا عربة البك إلى محطة جالاتا، وأرسلوا برقية إلى روكساندرا، ثم استقلوا عربة حمراء لامعة من عربات القطار المعلق صاعدين التل حتى شارع لو جراند رو دو بيرا. وقفت إلينورا في منتصف الطريق المنحني قليلا، وشعرت كما لو أنها قد ألقي بها في قلب بوخارست أو باريس، أو كأنها دخلت في إحدى صفحات «الساعة الرملية» أو أي كتاب آخر على نفس القدر من الروعة. أخذت تراقب السيدات الأوروبيات الأنيقات وهن ينتشرن في الزحام، وأغمضت عينيها واستنشقت الرائحة العذبة للوز المغلف بالسكر التي تنبعث من أحد الباعة أمام مقهى أوروبا.
قال البك وكعباه يقرعان الحصى: «تعالي أيتها الآنسة كوهين، أعتقد أن الوجهة التي نقصدها ستلقى اهتماما شديدا لديك.»
في حلته الرمادية المكونة من ثلاث قطع وطربوشه الصوفي الأحمر، كان منصف بك ذا هيئة لافتة للنظر. حتى السيدات الأوروبيات راقبنه باستحسان صامت وهو يقود إلينورا ويعقوب إلى الناحية الأخرى من الشارع، مارين ببائع خردوات وصيدلية واستديو تصوير، حتى توقفوا أخيرا أمام محل مكتوب على واجهته بالذهب «مدام بواريه، خياطة للسيدات». وبينما كانوا يدخلون، قرع جرس، ونظرت السيدة الجالسة إلى الطاولة - وعلى ما يبدو أنها مدام بواريه نفسها - إليهم من خلف نظارتها الطبية.
صفحه نامشخص