لم يكن ذلك هو تخيلها عن الرحلة على الإطلاق، رغم أنها لم تستطع أن تتذكر ماذا كان تخيلها بالضبط. فرغم أنها قد فكرت في التفاصيل الدقيقة المختلفة لخطتها، ورغم أنها قد راجعت قائمتها مرارا وتكرارا، لم تتخيل إلينورا بالفعل معنى أن يحبس المرء نفسه داخل صندوق أمتعة. وعندما كان ذلك الأمر يخطر في بالها، كانت تتخيل أن الوقت سيمر سريعا، وأنها على غرار الأجزاء المملة في الروايات يمكنها أن تتجاوز الرحلة سريعا وتصل إلى إسطنبول وهي لا تعاني سوى الإرهاق. ولكن الأمر لم يكن هكذا بالطبع، فالوقت يمر ببطء شديد يجر أثقاله كما لو كان حصان نقل منهكا أجبر على السفر أياما طويلة فوق طاقته. وإذا كانت حساباتها صحيحة، فقد مكثت في الصندوق ما يزيد قليلا على سبع ساعات. ليست الساعات السبع بالوقت الطويل على مدار حياة المرء، ولكن تلك الساعات السبع مرت كما لو كانت سبع سنوات.
في بادئ الأمر تغلب عليها الخوف. كانت قلقة من أن يكتشف أمرها، أو أن ينتابها السعال أو العطس، أو تبتلع ريقها فيكتشف والدها أو روكساندرا وجودها. ولكن لا بد أنها قد استغرقت في النوم في نهاية الأمر؛ لأن أول ما تتذكره بعد ذلك هو شحن الصندوق في حقيبة الأمتعة لإحدى سيارات الأجرة واهتزازها أثناء هبوط التل. وبعد أن انتظرت فترة طويلة فيما افترضت أنه أحد طوابير التفتيش الجمركي، فتحت حقيبة الأمتعة، وتسلل بصيص من الضوء خلال الصدع الموجود في الغطاء، واعتقدت أنها سمعت صوت والدها. تزاحم حشد صاخب من الرجال حول السيارة، وانتقل الصندوق من يد ليد كما لو كان كيسا من الرمل. ولا بد أن أمتعة والدها كانت آخر ما وضع على متن السفينة، فبعد تحميلها سرعان ما أغلق بدن السفينة بسلاسل حديدية أصدرت صريرا، ودار المحرك، ونفثت السفينة دخانها منطلقة بعيدا عن المرفأ. وفي تلك اللحظة فقط، سمحت إلينورا لنفسها أن تطلق تنهيدة وتتأمل موقفها. كانت خطتها قد نجحت نجاحا تاما، ولكن ها هي محبوسة، وألم حاد يسري في ظهرها، والجوع ينهشها كالحمم البركانية.
صاحت وصوتها يتحشرج في حلقها: «مرحبا، هل يسمعني أحد؟»
لم يكن الأمر ذا جدوى، فلم يكن أحد هناك، حتى لو كان هناك أحد فلن يسمعها مع هدير المحرك. ركلت قاعدة الصندوق بقوة؛ لشعورها بالإحباط من ناحية وأملا في أن تجد طريقا للخروج من ناحية أخرى. ورغم أن الخشب ظل صلبا، سقط شيء من جيب إلينورا الأمامي أثناء تلك الحركة المفاجئة السريعة، فحررت ذراعها من أسفلها ومرت بإبهامها على ذلك الشيء. كان مؤشر الكتاب، وهو أحد المتعلقات الشخصية القليلة التي أخذتها والدتها معها من بوخارست إلى كونستانتسا، أو على الأقل أحد المتعلقات القليلة التي تبقت. كان قطعة رقيقة من خشب البلوط منقوشة عليها أشكال سداسية الأضلاع متداخلة، وبدا كما لو كان به ضوء داخلي يخترق الظلام. تخيلت إلينورا والدتها وهي شاردة الذهن تلف خصلات شعرها حول المؤشر وهي تعيد قراءة إحدى الفقرات المفضلة لديها من «الساعة الرملية». وبينما كانت إلينورا نفسها تلف خصلات شعرها بين إبهامها وسبابتها، تذكرت ذلك المشهد الذي هربت فيه السيدة هولفرت المسنة من سجن عمها عن طريق كسر أصفادها بواسطة دبوس شعر أطبقت عليه بين أسنانها.
كان الأمر يستحق المحاولة، حتى وإن كان ذلك لأنه لا توجد خيارات أخرى لديها. ثنت معصمها للداخل كما لو كانت دجاجة، وضغطت ذقنها إلى صدرها وأطبقت على أسنانها، وبإطباق أسنانها وحافة لسانها تمكنت من تحريك المؤشر بمهارة مذهلة، وبعد بضع دقائق تمكنت من إدخاله عبر الصدع بين غطاء الصندوق وجسمه. قطبت عينيها إمعانا في التركيز، ومررت المؤشر للأمام وللخلف بطول المجرى حتى وصل إلى آلية الإغلاق، وبضغطة واحدة انزاح الغطاء.
احتفظت إلينورا بالمؤشر بين أسنانها، وجلست تغمض عينيها وتفتحهما في غرفة الأمتعة المظلمة التي تكتسي بتراب الفحم. وعلى وهج التنور القادم من بعيد استطاعت أن ترى الشكل الخارجي لصندوقها الخاص وحفنة من الصناديق الأخرى يتغير لونها إلى الأسود الحبيبي. استطاعت أن تميز الأشكال لا الألوان، والروائح لا مصدرها. وببعض المجهود خرجت إلى الأرض المعدنية الدافئة، ومدت ذراعيها فوق رأسها، وانحنت كي تلمس أصابع قدميها. دلكت موضع الألم لديها بمفصل إبهامها، وحركت رقبتها بحركة دائرية وهي ترتعش. وعندما تمددت للدرجة القصوى جلست على صندوق قريب، وأخرجت حقيبة المؤن الخاصة بها وأخذت تتناول الطعام، ملقية بكسرات الخبز وقطع الجبن في فمها كما لو كانت حيوانا جائعا.
وبينما بدأت عيناها تألف الظلام الحالك لبدن السفينة، رأت أنها محاطة بحشد من الأمتعة، وصفوف متراصة من الصناديق وأقفاص الشحن والمنقولات التي لا يضيئها سوى وهج التنور. عاينت المنظر الخرب، وبحثت عن إشارة تدلها على الصناديق التي يختبئ فيها السردين أو الرقائق أو الكرز المجفف أو الجوز أو اللحم المفروم، فقد التهمت ما يزيد على نصف المؤن التي أحضرتها في أكلة واحدة، وما زالت معدتها تطلب المزيد. وبالطبع لن يمانع أحد ممن كتبت أسماؤهم على الأمتعة في إعطاء حصة من طعامهم لطفلة تتضور جوعا. اتجهت إلينورا من صندوق إلى آخر، مستخدمة المؤشر كما لو كان أداة لفتح الأقفال، فاتحة الصناديق التي تمكنت من فتحها ومبتعدة عن تلك التي لم تتمكن من فتحها، منقبة وسط الملابس والكتب والحلي والعطور بحثا عن طعام. وجدت مجموعة من الأدوات المكتبية الفاخرة المزينة بالنقوش، والكئوس البلورية، وآلة ساعة ضخمة، وحقيبة متخمة بالخطابات الغرامية، ولكنها لم تجد ما تأكله.
وأخيرا، وجدت صفا من خمسة صناديق خشبية بمعزل عن بقية الأمتعة في ركن بعيد من السفينة، كل منها بطول إلينورا ذاتها، ويحمل ختما ذهبيا بتوقيع الخطاط. ورغم فخامة تلك الصناديق، أو ربما بسبب فخامتها، لم تكن تحمل أقفالا، بل كان التحصين الوحيد بها مزلاجا ومسمارا خشبيين. كان الصندوق الأول الذي فتحته مليئا بالكتب، وخاصة الروايات، التي كتبت بالفرنسية والألمانية والإنجليزية. ألقت نظرة عاجلة على عناوين الكتب، ثم انتقلت إلى الصندوق التالي. قد تثير الكتب اهتمامها لاحقا، ولكنها الآن بحاجة إلى الطعام. كان الصندوق الثاني مكدسا بالكافيار والسمك المدخن والرنجة ومئات العلب الحمراء والذهبية التي تحمل كل منها بضع كلمات بالروسية أو صورة لسمكة. تلفتت إلينورا حولها، ثم سحبت إحدى العلب من الصف العلوي وفتحت غطاءها كاشفة عن طبقة من الكرات البرتقالية اللامعة. لمست بيض السمك بأصبعها الخنصر بحذر ثم تذوقته، فتقلص أنفها اشمئزازا؛ لم يكن هذا المذاق اللاذع المالح هو ما تأمل فيه، ولكنه كان طعاما على أي حال. وفي أقل من ساعة، كانت إلينورا قد التهمت ثلاث علب من الكافيار، مغترفة حفنة تلو الأخرى حتى ثملت من البطارخ.
افترشت في تلك الليلة النسيج السميك لسجادة إيرانية فاخرة ولفافة مخملية. ألقت رأسها على زاوية مطوية من السجادة وجذبت المخمل حول أكتافها، ثم أغلقت عينيها وشرد ذهنها. كان عقلها يموج بالخوف والشك ، ولكن بقدر خوفها وبقدر شكها في مدى حكمة قرارها بالهرب، كانت إلينورا متعبة للغاية. وبينما هدأت قرقرة الجوع واستقر التنور على صوت دقات ثابتة، انزلق ذهنها إلى محيط النوم الدافئ المالح؛ مرتفعات وأمواج بيضاء، وطيور النورس تحلق فوق الرءوس، وكل حين وآخر تلوح اليابسة من بعيد. وبينما كان التيار يجرفها بعيدا، تحول البحر إلى طريق ريفي؛ بقرة وحيدة تجتر الأعشاب، والكوخ الحجري الذي يظهر من حين لآخر، ومجموعة من أشجار السرو، وخلف ذلك كله رقع شاسعة من أراضي المزارع التي يتراوح لونها بين الأصفر والأخضر. وسرعان ما تحولت الأكواخ إلى قرى، والقرى إلى مدن، واستطالت المدن وأصبحت ذات شوارع عريضة وقباب بلورية وحدائق ليلية تعبق برائحة ماء الورد والياسمين.
في باطن السفينة فقدت إلينورا شعورها بالوقت، فكانت حركة الأمواج وصوت الطقطقة المتقطع للتنور هما العلامتين الوحيدتين على مرور الوقت. كانت تنام عندما تشعر بالتعب، وتتناول الطعام عندما تشعر بالجوع، وتقضي حاجتها في زاوية خالية من السفينة كما لو كانت حيوانا بريا محبوسا في طابق أرضي. وبمرور الوقت اعتادت عيناها ضوء التنور الخافت القاتم، ورغم أنها كانت تصيبها نوبات كثيرة من السعال فإنها اعتادت غبار الفحم. وأكثر من مرة جذبت كتابا من صندوق السلطان وحاولت أن تقرأ، ولكن الكلمات كانت تتداخل بعضها في بعض وتتلاشى عبر الصفحة، متيحة لها أن تقرأ فقرة واحدة فحسب قبل أن يتمكن منها صداع مرهق. ولما كانت القراءة مستحيلة، ولا توجد شمس، ولا توجد مهام تؤديها، فقد شغلت إلينورا نفسها بتفحص أمتعة المسافرين، متذكرة كتبها المفضلة، ومتسائلة مثل ديفيد كوبرفيلد عما إذا كانت ستصبح بطلة حياتها الخاصة أم أن تلك المكانة سيحتلها شخص آخر.
صفحه نامشخص