کارل پوپر: صد سال از روشنگری
كارل بوبر: مائة عام من التنوير
ژانرها
6
يقول بوبر إن مناهضي مذهب تدخل الدولة يرتكبون خطأ التناقض الذاتي، فأية حرية يجب أن تحميها الدولة، حرية سوق العمل أم حرية الفقراء أن يتحدوا؟ فأيما قرار سيتخذ سوف يفضي بالضرورة إلى تدخل الدولة، إلى استخدام القوة السياسية المنظمة، للدولة والنقابات العمالية أيضا، في مجال الشئون الاقتصادية. وسوف يفضي في ظل جميع الظروف إلى اتساع المسئولية الاقتصادية للدولة شئنا ذلك أم أبينا. وبصفة أعم إذا الدولة لم تتدخل فقد تتدخل عندئذ تنظيمات شبه سياسية مثل الشركات والاتحادات الاحتكارية وما إليها، فتختزل حرية السوق إلى وهم. ومن جهة أخرى فإن من الأهمية بمكان أن ندرك أنه في غياب الحماية اللصيقة للسوق الحرة، فمن المحتم أن يتوقف النظام الاقتصادي برمته عن تأدية الغرض الوحيد المنوط به وهو أن يفي بحاجات المستهلك ... إن التخطيط الاقتصادي الذي لا يحقق الحرية الاقتصادية بهذا المعنى سوف ينتهي به المطاف إلى شيء قريب من الشمولية.
7
في جميع هذه الأحوال نجد أن غاية التسامح (أو الحرية) الممكنة هي دائما قدر محسوب وليس مطلقا، إذ لا بد للتسامح والحرية أن يكونا محدودين إن شئنا لهما أن يوجدا على الإطلاق. ومن البين أن التدخل الحكومي، وهو الضمان الوحيد لوجودهما، هو سلاح ذو حدين: فبدونه تموت الحرية، وبزيادته عن الحد تموت الحرية أيضا. وهكذا نجد أنفسنا نعود أدراجنا إلى ضرورة الضبط، والذي يعني إمكانية تغيير الحكومة بواسطة المحكومين كشرط أساسي للديمقراطية. غير أن هذا التغيير، وإن يكن شرطا ضروريا، ليس شرطا كافيا. فهو لا يضمن بقاء الحرية، إذ لا شيء يضمن بقاءها، فثمن الحرية هو اليقظة الدائمة. إن النظم أو المؤسسات، كما أشار بوبر، هي كالحصون ... ليس يكفي أن تكون شديدة البنيان بل يجب أن تكون مزودة أيضا برجال أشداء. (5) مفارقة الحكم (السيادة)
دأب الفلاسفة السياسيون بعامة أن يعدوا السؤال الأهم في مجالهم هو «من الذي ينبغي أن يحكم؟» ثم يبرروا جوابهم عنه كل حسب توجهه الخاص: شخص واحد، الشخص الحسيب، الغني، الحكيم، القوي، الخير، الأغلبية، البروليتاريا، إلخ. ولم يجل بخاطر أحد أن السؤال نفسه مغلوط! وذلك لأسباب عديدة، فهو أولا يفضي مباشرة إلى ما أسماه بوبر «مفارقة الحكم»: «هب أننا أسلمنا مقاليد السلطة ليد أكثر الناس حكمة. إنه قد تقتضيه حكمته العميقة أن يقول: «ليس أنا، بل الأحسن خلقا هو من ينبغي أن يحكم». فإذا تولى هذا زمام السلطة فقد يقتضيه ورعه أن يقول: «لا يليق بي أن أفرض إرادتي على الآخرين، ليس أنا ولكن الأغلبية هي التي يجب أن تحكم». وبعد تنصيب الأغلبية فإنها قد تقول: «نريد رجلا قويا يفرض النظام ويخبرنا ماذا نفعل».»
وثمة اعتراض ثان مفاده أن السؤال: «أين يجب أن يكون الحكم؟» يفترض مسبقا ضرورة وجود السلطة النهائية في مكان ما، وهو غير صحيح. ففي معظم المجتمعات هناك مراكز قوى مختلفة ومصطرعة إلى حد ما وليس مركز واحد يمكنه أن يدير الأمور كما شاء. وفي بعض المجتمعات نجد النفوذ موزعا منتشرا على نطاق واسع. فإذا سأل سائل: «نعم، ولكن أين تقع السلطة في النهاية؟»، فإن سؤاله يستبعد قبل أن يطرح إمكانية وجود ضبط على الحكام، حين يكون هذا الضبط هو أولى الأشياء جميعا بترسيخه. ومن ثم فهو سؤال يحمل في داخله متضمنات شمولية. إن السؤال الحيوي ليس «من يجب أن يحكم؟» بل «كيف نحول دون إساءة الحكم؟ كيف نتجنب حدوثها، وإذا حدثت كيف نتجنب عواقبها؟»
نخلص مما سبق إلى أن أفضل مجتمع يمكننا تحقيقه هو ذلك الذي يكفل لأعضائه أكبر قدر ممكن من الحرية، وأن هذا الحد الأقصى هو قدر منضبط تخلقه وتحفظه نظم مصممة لهذا الغرض ومدعمة بقوة الدولة، وهذا يستلزم تدخلا واسع النطاق للدولة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأن الإفراط في التدخل أو التفريط فيه كلاهما يؤدي إلى نفس النتيجة وهي ضياع الحرية. وأن تجنب كلا الخطرين هو في التمسك بنظم معينة، أولها وأهمها جميعا الاحتفاظ بوسائل دستورية يتسنى بها للمحكومين تغيير من بيدهم مقاليد سلطة الدولة، واستبدال غيرهم ممن لهم سياسات مختلفة. وأن أي محاولة لإضعاف هذه النظم وإبطال دورها هي محاولة لتنصيب حكم شمولي ولا بد أن تمنع (بالقوة إذا لزم الأمر). إن استخدام القوة ضد الطغيان هو أمر له ما يبرره حتى لو كان الطغيان يتمتع بتأييد الأغلبية، والاستخدام الوحيد المبرر للقوة هو للمحافظة على النظم الحرة حيثما وجدت وتأسيسها حيثما غابت. (6) مذهب المنفعة السلبي
Negative Utilitarianism
يقدم بوبر في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» مبدأ شاملا مرشدا للسياسة العامة هو «أقل قدر ممكن من المعاناة»، كمقابل لمبدأ جون ستيوارت مل «أكبر قدر من السعادة». يتميز مبدأ بوبر عن مبدأ مل بأنه يلفت الانتباه مباشرة إلى المشكلات. إذا تصورنا مثلا إدارة تعليمية نذرت نفسها لتقديم أفضل حظ تعليمي لأطفالها، فقد تجد نفسها في حيرة من أمرها، فماذا عساه يكون أفضل شيء؟ وماذا تفعل بالضبط لكي تحققه؟ ولعلها تشرع في التفكير في إنفاق مالها على بناء مدارس نموذجية. ولكن إذا نذرت هذه الإدارة التعليمية نفسها بدلا من ذلك لتقليل المساوئ والعيوب فإنها عندئذ ستلتفت مباشرة إلى أكثر المدارس احتياجا: تلك التي يعاني مشرفوها أسوأ المشكلات، والتي تجد فصولها أشد ازدحاما ومبانيها أشد تهالكا وتجهيزاتها التعليمية أقل من سواها، فتجعل لها الصدارة في مجال اهتمامها. يقتضي منهج بوبر هذه النتيجة دون مواربة: فبدلا من أن تحفز المرء على التفكير في تشييد يوتوبيات، فإنها تحفزه على أن يفتش عن الشرور الاجتماعية المحددة التي يرزح تحتها البشر، وأن يحاول جهده أن يزيلها. إنه منهج عملي قبل كل شيء، غير أنه منهج يكرس نفسه للتغيير. إنه ينطلق من الحرص على مصلحة البشر ويشتمل على رغبة نشطة ودائمة في إعادة تشكيل المؤسسات. «أقل قدر من الشقاء» ليس مجرد صيغة سلبية لمبدأ النفعيين «أكبر قدر من السعادة»، فهنا «لا تماثل منطقي»: إننا لا نعرف كيف نجعل الناس سعداء، ولكننا نعرف جيدا سبلا لتقليل شقائهم. ولعل القارئ قد لاحظ لتوه تماثلا بين هذه المسألة وبين مسألة «التحقيق» و«التكذيب» في العبارات العلمية. يقول بوبر: «أعتقد أنه ليس هناك تماثل
Symmetry
صفحه نامشخص