إلا أنه لمأزق حرج محير مربك خطير، ذلك الذي ينشأ الفتى العربي في حبائله، فلا يدري كيف يجد سبيله من تلك الحبائل ليخرج إلى ما قد خلق ليمرح فيه، من أرض فسيحة تحت قدميه، وسماء مفتوحة فوق رأسه. وبقولنا «الفتى العربي» نشير إلى أبناء هذا الوطن الصحراوي الفسيح، الممتد من الخليج إلى المحيط، عبر عصور التاريخ ومنذ فجر التاريخ. ولقد اختار التاريخ أرض مصر ليطلع فيها بفجره، وكان ذلك الفجر مقرونا في حياة الإنسانية بفجر آخر هو «فجر الضمير». ولا عجب أن جعل عالم المصريات الفذ، والمؤرخ العظيم «بريستد» عبارة «فجر الضمير» عنوانا على كتاب له في تاريخ البدايات الأولى للتاريخ المصري. وما يصدق على المصري هنا، يصدق كذلك على سائر أجزاء الوطن العربي بعد ذلك، وأعني ما قد أراده رب العالمين لابن هذا الإقليم المبارك، من أن يكون أول بشر يضع محكمته الأخلاقية في قلبه، فأينما كان وحيثما سار، كان ميزان الحكم الخلقي منصوبا بين جوانحه يميز به الخير من الشر، والهدى من الضلال، وإنه لضمير جعل مبدأه في السلوك أن يتفاعل الفرد مع سائر الأفراد على نحو يجاوز بالبصر حدود هذه الحياة الدنيا، أملا في أن يجيء ذلك السلوك مرضيا لمالك يوم الدين إذا قامت الساعة وجاء الحساب. إن «الفتى العربي» قد أريد له إذا ما ترك على سجية إقليمه - أرضا منبسطة إلى آفاق بعد آفاق وسماء طلقة حتى آخر أجواز الفضاء - أقول: إن ذلك الفتى العربي لو ترك لسجيته وسجية وطنه، لما عرف في حياته العملية إلا ضابطا واحدا، هو ما انضبط به بوحي من رب العالمين. وإنك لتسمع الفلاح المصري والعامل المصري، وهما في أبسط صورة لهما يرددان عبارة «إني أعامل ربي» كلما جرى بينه وبين مواطن تعامل في بيع أو شراء أو صناعة أو كيفما كان.
لكن هذه الصورة الفطرية البسيطة لم تترك على بساطة فطرتها، بل أضيفت إليها القيود قيدا فوق قيد؛ فهنالك حاكم وحكومة ظهرا في الساحة يتطلبان من الشعوب سيادة لهما على الناس، قبل أن يتعهدا لتلك الشعوب بخدمتها في أمانة وشرف. إذن فقد بات حتما على المواطن البسيط كلما أراد أن يميز خطأ الفعل من صوابه، أن يحسب حساب الحاكم والحكومة، إلى جانب ميزان الضمير. ولم يكن ذلك هو القيد الوحيد الذي غلت به الأرجل والأذرع كما غل اللسان، بل فرض على الفرد قيد آخر لعله أبشع وأقسى، وهو «الرأي العام» الذي ترسبت في خلايا جسمه الكبير - وعلى مدى الأعوام والقرون - رواسب مما بث في تلك الخلايا من مزاعم عن الحق والباطل، والصحيح والفاسد، حتى أصبح لذلك «الرأي العام» في كل شعب على حدة، وفي مجموع الأمة، مزاج خاص فيما يغضبه وما يرضيه. والويل لمن أقام ميزان ضميره ليكون فيصلا بين ما يقبل وما يرفض، من فكر أو اعتقاد أو سلوك، دون أن يبدأ بإحكام الرأي العام في كفة الميزان التي يراد لها الرجحان.
لم يعد الأمر - إذن - في حياتنا العملية مرهونا بضمير حر يوجه صاحبه نحو ما يقال أو ما يعمل، إرضاء لرب العالمين خلال إرضاء ذلك الضمير، بل هنالك حاكم وحكومة، وهنالك رأي عام ضاغط، فضلا عما هنالك في طبيعة لإنسان الحيوانية من غرائز، وانفعالات وعواطف، ورغبات وشهوات، كلها يلح على حاملها يريد إشباعا وإرضاء، فماذا تتوقع من الإنسان، الذي ألهمت نفسه فجورها كما ألهمت تقواها، إزاء الصراع العنيف الذي لا بد له أن يستعر في جوفه بين تلك العوامل الكثيرة المتعارضة؟ ماذا تتوقع منه إلا أن ينجو من الناس فرد بقوته وصلابته، وأن يسقط حوله تسعة وتسعون فردا خارت فيهم القوة ولانت الصلابة؟ وكيف يجيء ذلك السقوط؟ إنه قلما يجيء في شجاعة الصراحة والعلانية، وأما الأغلب الأعم فهو أن يجيء في جبن الخائف المتستر بضعفه وراء الجدران، فإذا كان له رأي يخالف ما يريده الحاكم والحكومة، وما ينصره الرأي العام، قاله لخلصائه همسا خلف أبواب مغلقة، وإذا كانت به رغبة تدفعه إليها غريزة أو عاطفة، سافر ليشبعها خارج الحدود، أو بحث عن حجب يتخفى في ظلماتها، والويل لمن لا يتقن هذه اللعبة الاجتماعية ويجيدها.
ولو اقتصرت تلك اللعبة الاجتماعية على حياة الناس الخاصة، لهان خطبها، ولكنها تتعدى هذا المجال الخاص إلى المجال الثقافي العام، فإذا كنت كاتبا، وجب أن تكتب مما في ذات نفسك شيئا وتخفي شيئا، وإذا ترجمت لحياة بطل من أبطالها، وجب أن تصوره ملكا من الملائكة المطهرين لا يعرف الضعف أو الخطأ إليه سبيلا؛ فكل ما فيه قوة على قوة، وصواب فوق صواب، بل إنك إذا ترجمت لحياة نفسك، أبى عليك الرأي العام إلا أن تعلن الحسنات وتخفي السيئات، حتى لو كانت لك الشجاعة النادرة التي تميل بك نحو تقديم صورتك على حقيقتها قوة وضعفا.
في مثل هذا المأزق ينشأ الفتى العربي، فلا يجد أمامه خيارا - في علاقاته مع الآخرين - إلا أن يفرض فيهم السوء إلى أن يثبت له عكس ذلك، فلا يأتمن أحد منا أحدا، ولا يصدق أحد منا أحدا، إلا بعد خبرة يطمئن بها على نفسه، فنكثر فينا الضمانات، وتتعقد العلاقات، وتزداد الخصومات، مع أننا إذا ما تركنا على سجايانا الفطرية، لبدأنا بالحب قبل الكراهية، وبالأمن قبل الخوف، وبالتعاون قبل التنافر، لكننا أضفنا إلى النقاء غبارا، وإلى الصفاء عكرا، فوقعت حياتنا في مأزق حرج مخيف.
إرادات مبعثرة
لم يكن هذا الكاتب في حياته العلمية والثقافية ميسرا كل اليسر، كلا، ولا كانت تلك الحياة عسيرة كل العسر، أما يسرها فقد جاءت من إرادته، وأما عسرها فمن إرادات الآخرين؛ فلقد استهدف منذ شبابه الباكر حياة «المعرفة» يحصلها علوما في معاهد التعليم، يجمعها فكرا وأدبا وفنا من مطالعات حرة لعمالقة الفكر والأدب والفن، عربا كانوا معاصرين أو قدماء، أم كانوا من أبناء الغرب، قديمه وحديثه على السواء. وكان مصدره في هذا القسم الثاني هو المكتبة الإنجليزية يأخذ منها ما هو إنجليزي أصيل، وما هو إنجليزي بالترجمة، وساعده في ذلك دراسته لهذه اللغة على نطاق واسع نسبيا منذ أولى درجات السلم التعليمي. وذلك - إذن - هو مصدر اليسر في سيرته الثقافية، وأما مصدر العسر فأمره عجب من عجب؛ إذ كان لهذا الكاتب في كل خطوة على طريق الحياة من يلقي عليه حجرا من حجارة الاستعلاء، أو الازدراء، أو الصمت القاتل، وكان هذا الصمت أهون الشر. نعم، لقد أنعم الله على هذا الكاتب بنعمتين لا يتقدران بأموال قارون؛ أولاهما ثبات على الهدف كائنة ما كانت العقبات والعثرات. وأما الثانية فهي درجة من الاكتفاء بذاته وبما بين يديه، فسواء أجاءه من الآخرين تصفيق الإعجاب، أم جاءه صفير السخرية؛ لأنه في كلتا الحالتين ماض في طريقه نحو غايته، شاكرا للمعجبين، وعاذرا للساخرين، وسواء عنده كذلك أكان الراتب النقدي عشرة أم كان عشرة آلاف؛ لأنه في كلتا الحالتين يكفيه الأقل، ويحمد الله على نعمته إذا قسم له ما هو أكثر.
جاءه شاب من طلابه له بعض الموهبة في دنيا القلم، وأخذ يشكو من إهمال الكبار في هذا الجيل للشباب، فسمعت في صدري شيئا يضحك وشيئا يبكي. وكان الذي أثار ضحكات الضاحك منهما، ما ظنه من حسن النوايا في أبناء الجيل الماضي؛ لأنه إذا كان هذا الكاتب في شبابه مقياسا للذي كان بين صغار وكبار، لكان هذا الشاب الشاكي على ضلال ليس بعده ضلال؛ إذ كان «الصغير» منا يتلقى لكمات الهوان تلطمه بالشمال وباليمين، فإذا هو تصدى لها بمثلها قضي عليه بالموت الذي لا قيامة بعده في دنيا القلم، وإذا هو أغضى صعبت عليه نفسه. ولم يكن أمام هذا الكاتب في شبابه إلا الطريق الثالث بين الطرفين، وهو الاعتصام بجدران بيته، يقرأ ما يقرؤه هناك، ويكتب ما يكتبه هناك، بحيث لا يكون بينه وبين الناس إلا المطبعة، تأخذ منه وتعطيهم. ولقد امتد به طريق الاعتزال - ما أمكنه - منذ ذلك الحين وحتى هذه الساعة التي يكتب فيها. وكلما تكاثر حوله لوم اللائمين، خرج من محرابه فإذا هو ملاق من الحجارة ما يذكره بشقاء الماضي، فيعود إلى مخبئه.
ذلك هو ما أضحك الضاحك في صدري عندما استمعت إلى شكوى الطالب الموهوب، والذي هو على عتبة الدخول إلى دنيا القلم. وأما الذي أبكى الباكي فهو هذه المأساة التي خيمت على حياتنا العلمية والثقافية لبضع عشرات من السنين، وما زالت تخيم، وهي أنه كلما صممت إرادة مريد منا على خدمة «المعرفة» مما هو جوهري في حركات «التنوير» تصدت لإرادته إرادات - من هذا وذاك - لتحطيم إرادته، فكلما ظهر عامل يعمل على خدمة العلم والثقافة، ظهر له ألف عامل يعملون على كسر قلمه وإخفات صوته. وإذا لم تخدعني الذاكرة، فأظن أن الدكتور طه حسين قال في مثل هذا الموقف المحزن هذه الجملة أو ما يقرب منها: «هنالك قوم لا يعملون، ويؤذيهم أن يعمل العاملون.»
لقد أوشك هذا القلم أن يجر صاحبه إلى حكايات وحكايات عن مواقف عاناها شابا وما زال يعانيها شيخا على عتبة الرحيل. وكلها مواقف يستحدثها من لا يعملون ويؤذيهم أن يعمل العاملون، لكن هذا الكاتب لن ينساق مع غواية قلمه، لينصرف إلى ما هو أهم وأنفع. وعند هذه النقلة طافت بخياله صورة رجل غريب نزل إلينا من كوكب المريخ، لا يدري من أمور حياتنا شيئا، لكنه ذكي نافذ البصيرة، وأخذ يراقب الناس في مناشطهم كل يوم، وإذا به يخرج آخر الأمر بحكم عما رآه، وهو: ليس الذي ينقص هؤلاء الناس هو الإرادة؛ فكثيرون منهم يحملون إرادات ماضية العزيمة، لكن الذي ينقصهم هو أن تتجه تلك الإرادة نحو غاية موحدة، فيكمل بعضها بعضا في بلوغها؛ فلست أرى في حياتهم إلا إرادات ينصب بعضها على بعض تحطيما وتهشيما، فأنتجت لهم المعركة موتا أكثر مما أنتجت حياة، فهمست لنفسي عندما رأيت هذه الصورة في خاطري، وسمعت حكم الزائر المريخي، قائلا: إنه إذا صدق هذا الحكم، كان الذي ينقصنا حقا هو «العقل» الذي يلجم الإرادة لتسديد خطاها - من جهة - ثم يعمل على تحقيق ما أرادته - من جهة أخرى.
صفحه نامشخص