ومثل هذه الحاسة اللغوية هي ما كنا نتوقع من مدرس اللغة العربية أن يبثها، ويربيها، وينميها، ولو قد فعل لما رأينا هذه الكثرة الكاثرة من الكتاب بل ومن الشعراء في هذا الجيل، تكتب على نحو ما تكتب، وتنظم على نحو ما تنظم. وبعض العلة يرتد إلى جماعة ممن وضعوا أنفسهم مواضع الأساطين في اللغة. وإذا سألت عما يفعلونه، وجدت ما يفعلونه أقرب الأشياء شبها بالحفريات الأثرية، لا تفرق بين كسرة من الخزف، وعملة من الذهب؛ فكلتاهما أثر نفيس، يستحق على التساوي أن يعنى به حفظا في الخزائن. ولا عجب أن تجد هؤلاء الأساطين إذا ما أمسكوا الأقلام ليكتبوا، جرت بهم الأقلام إلى عي، وغث، وهزال.
ولن يتحقق لنا أمل في صلة وجدانية بيننا وبين ماضينا العربي، إلا إذا تغيرت وجهة النظر إلى طبيعة اللغة، لنبثها في نفوس أبنائنا وبناتنا، بحيث يقرءون ما يقرءونه، أو يكتبون ما يكتبونه، والشعور يملؤهم بأنهم إزاء خلجات حية كأنها خيوط من عصب ينتفض تحت سن القلم، وعندئذ نقرأ ما نقرؤه مما كتبه السلف (كل فيما يثير اهتمامه) فلا يكون الذي بين أيدينا ورق بارد في كتاب، بل يتمثل لنا إنسانا يتحدث إلينا بما يتحدث، لا لكي نقول له: نعم، صدقنا. بل لنحاوره فيما يعرضه علينا، فيعود هو إلى الحياة عن طريق حوارنا معه، ونزداد نحن حياة على حياة، عندما تضاف خبرة الماضي إلى خبرة الحاضر في خط واحد موصول الطرفين. ولم يكن هذا هو الذي بثه فينا مدرس اللغة العربية وهو يعلمنا أصول الجملة الشرطية، ولا كان هو الذي بثه فينا وهو يطالبنا بحفظ خطبة الحجاج، كلا، ولا هو الذي يبثه القائمون على اللغة العربية فيمن يتلقاها دراسة أو قراءة.
ذلك - إذن - هو شيء عن «الماضي» وأين يقع منا ونقع منه. إنها جملة نطالب بربط أواصرها بين حاضرنا وماضينا، لا لكي نستشير السلف كيف نزرع القطن وقصب السكر، وكيف ننشئ مصانع الحديد والصلب ومولدات الكهرباء، ولا لكي نستشيره كيف نقيم نظم الحكم النيابي ونظم التعليم الذي تتسلسل حلقاته من روضة الأطفال إلى الدراسات العليا بالجامعات، بل نطالب بربط حاضرنا بماضينا لنستلهم ما عسانا نصون به مقومات الروح العربية في كبريائها وفي حفظها للتوازن بين ما يزول ويفنى، وما يخلد ويبقى. وإنه لميزان لو أحسن العربي إقامته كما أحسن السلف في فترات عزتهم، لعرفوا ماذا يضحى به من أجل ماذا؟ إننا نطالع القدماء لا لكي نكون عيالا عليهم، هم يأمرون ونحن نأتمر، كلا؛ فهم رجال ونحن رجال، لكننا نطالعهم لنشعر بطمأنينة من يعتصم بالحبل حتى لا تقتلعه الريح أو يبتلعه الطوفان؛ فالذي نطالعه حين نطالع القدماء، إنما هو ما أبقى عليه الدهر لجودته، بعد أن نفخ في الهواء كثيرا جدا من الغث كأنه هباء من الهباء. وإذا ما طالعت لأحد الأسلاف الذين خلدهم التاريخ، شعرت بصفاته إنسانا عملاقا ارتفع كما ارتفع لقدرات فيه، دقة علم، ونفاذ بصيرة، وقوة عزيمة، وفضيلة أخلاق ... تحس بهذا كله، وتنطبع به، فيسري في شرايينك من دمائه ما يسري، وحسبك منه أن تشعر بعزة قومية، لكونك خلفا لهذا السلف. كان الإنجليز أيام امتلاكهم للهند، يقولون: إن نسب شكسبير إلى أمتنا أعظم من تملكنا لإمبراطورية الهند. وحين قالوا ذلك عن شاعرهم العظيم، فهم لم يقصدوا بقولهم ذاك، أن شكسبير سيعلمهم بمسرحياته وبشعره، كيف تغوص الغواصة إلى أعماق المحيط، وكيف تطير الطائرة إلى قلب السماء، وكيف تجري على الأرض سيارة وقطار، بل كان المقصود - بالإضافة إلى النشوة الفنية - الشعور بالعزة القومية. وهكذا نحن حيال ماضينا وعمالقته، أو هكذا ينبغي أن نكون.
لكن انظر في غير تعصب وبلا حكم مسبق تضمره في نفسك قبل أن تنظر لترى، انظر إلى ما يقع في حياتنا من حيث العلاقة بين العربي ورجوعه إلى ما خلفه السلف من فكر وأدب وما شئت من ثمرات القلم واللسان! وسوف تعلم كم يقرأ القارئ كتابا من الماضي، بحثا عن حلول يفض بها مشكلات يومه، على ظن بأن حاكم الأمس لا بد أن يكون أعدل من حاكم اليوم، وفقيه الأمس لا بد أن يكون أفقه من فقيه اليوم، وتاجر الأمس لا بد أن يكون أكثر أمانة ونزاهة من تاجر اليوم، وامرأة الأمس لا بد أن تكون أعف من امرأة اليوم وهكذا. نعم هكذا نفتح دفاتر الماضي بحثا عن حلول لمشكلاتنا على غرار ما حلت به مشكلات الأوائل. ومن هذا الأساس المغلوط، يتحتم أن تكثر في حياتنا الحاضرة أغلاط ننحرف بها عن سواء السبيل.
3
ما زلت أذكرها لحظة من لحظات الانفعال، التي كثيرا ما أخذت بزمامي، فتراجع العقل، وتقدم الوجدان ليمسك باللجام؛ فهي لحظة عشتها في حيرة مع نفسي، وكان ذلك في آخر عام من أعوام الأربعينيات، حين قرأت - لأول مرة - تفرقة بين شمال العالم وجنوبه؛ فللشمال قوة العلم، وقوة الحرب، وقوة المال، بل وقوة الفن والأدب، وللجنوب ضعف الجهل، وضعف الهزيمة، وضعف الفقر، بل وضعف طرأ عليه في عالم الإبداع. ولم أكد أفرغ من قراءة ما كنت أقرؤه، حتى تملكتني الحالة الانفعالية التي أشرت إليها، سبحانك اللهم ربي خلقتنا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، فهل كانت مشيئتك - يا رباه - أن ينكب الشرق، إن كانت القسمة بين شرق وغرب، وأن ينكب الجنوب، إن كانت القسمة بين شمال وجنوب، وأن تتراكم النكبتان على من كان «شرقا جنوبا» معا؟! وأن تجتمع النعمتان عند من كتب له أن يكون «غربا شمالا»؟!
نعم، ما زلت أذكرها، تلك اللحظة المنكودة؛ فلقد كنت قبلها أحترق غضبا كلما وجدتنا ننساق انسياقا أعمى وراء من قسم الناس إلى شرق وغرب، ليضع الهزال في الشرق والعافية في الغرب؛ ففضلا عن أن هذه القسمة لا تستقيم مع الواقع الجغرافي، فإننا لو سلمنا بتلك القسمة في الثقافات الكبرى التي شهدها التاريخ، بحيث رأينا التباين الحاد بين شرق في فارس والهند، تميز برؤية صوفية ملغزة غامضة، وبين غرب في اليونان القديمة، تميز برؤية عقلية تضع المقدمات محاولة أن تستدل منها النتائج في وضوح علمي لا يلفه الضباب، أقول إننا إذا سلمنا بهذه التفرقة الثقافية بين شرق وغرب، بقيت لنا الرقعة التي تتوسط الطرفين والتي هي الوطن العربي بمعناه الثقافي؛ ففي تلك الرقعة نشأت ثقافة ثالثة، ونمت وازدهرت وأنتجت حضارات، ولم تكن في رؤيتها العامة شرقية خالصة، ولا كانت غربية خالصة، بل أفرزت طبيعتها كيانا ثالثا تلاقت فيه عقلية الغرب مع صوفية الشرق في وحدة عضوية لا ينفرد فيها أي من عنصريها بوجود مستقل، فإذا كان لهذا المزيج قدرته على الإبداع الحضاري كما شهد بذلك واقع التاريخ، في الحضارة المصرية القديمة، وفي الحضارة الإسلامية العربية بعد ذلك، فلماذا نتنكر لأنفسنا ونتجاهل حقيقتنا وطبيعتنا؟
أقول إني كنت قبل أن وقعت لأول مرة على قسمة جديدة للأمم بين شمال قوي وجنوب ضعيف، على كثير من قلق نفسي وعقلي معا، أحاول أن أقيم الدليل على أن لنا ثقافة تجمع بين الحسنيين، فلما صادفتني القسمة الجديدة في تلك اللحظة المنكودة، أخذ مني الغيظ ما أخذ، هامسا لنفسي: ألم تكن تكفينا قسمة واحدة تحاول أن تضعنا في كفة المغبون، حتى تجيئنا هذه القسمة الثانية لتزيد الطين بلة كما يقولون؟ لكن المواجهة الانفعالية لا تنفع أحدا ولا تشفع لأحد؛ فأيا ما كان الأمر، فنحن في عصرنا هذا أمام حقيقة واقعة، وهي أن هنالك قارتين في عصرنا هذا، وهما أوروبا وأمريكا الشمالية، تجتمع فيهما «الغرب الشمال» وهما القارتان اللتان اجتمعت لهما ضروب القوة التي ذكرناها؛ في العلم، والحرب، والمال. كما أن هنالك ثلاث قارات، هي آسيا، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية، تنقصها قوة «الغرب الشمال»، ومنها يتكون - بصفة عامة - «العالم الثالث». وإذا نحينا جانبا أمريكا الجنوبية، لخروجها عن النطاق الذي يهمنا في هذا الحديث، كما نحينا أستراليا كذلك للسبب نفسه، بقيت لنا الكتلة الأفروآسيوية، وهي الكتلة التي يقع فيها الوطن العربي الكبير، مشرقه في آسيا، ومغربه في أفريقيا. وعلينا أن نطرح على أنفسنا السؤال الآتي لنبحث له عن جواب، في صدق ونزاهة وشجاعة، وهو: ما الذي تميز به «الغرب الشمال» المتمثل في أوروبا وأمريكا الشمالية، ومتى تميز؟ وكيف تميز؟ وما الذي نكب «الشرق الجنوب» المتمثل في آسيا وأفريقيا، ومتى حلت به نكبته؟ وكيف؟
وربما انفتح أمامنا الطريق إلى الإجابة الصحيحة، إذا أضفنا حقيقة برزت خلال هذا القرن، وهي أن الشعوب الصفراء قد أخذت شيئا فشيئا تشق طريقها إلى القوة التي ميزت «الغرب الشمال» بقدر ما أخذت تتخلص من الصفات التي أضعفت سائر الشعوب الأفريقية الآسيوية، فبدأت اليابان وحدها أولا، ثم تبعتها أقطار أخرى من بلدان اللون الأصفر. وهنا قد يساعدنا على الجواب الصحيح عن سؤالنا، أن نسأل سؤالا فرعيا، عما فعلته اليابان - مثلا - لتخرج من زمرة «الشرق الجنوب» ثقافة وحضارة؟
وتيسيرا على أنفسنا في عملية المقارنة وصولا بها إلى الإجابة المنشودة، فلنحصر النظر في الأمة العربية من جهة، وفي «الغرب الشمال» الذي هو أوروبا وأمريكا الشمالية - من جهة أخرى - قد كانت للأمة العربية ريادة حضارية مدى تسعة قرون «من أول ق7 إلى أواخر ق15 بالتاريخ الميلادي» ثم غابت عنها ريادتها، وكانت أوروبا بلا ريادة إبان تلك القرون التسعة نفسها، ثم استحدثتها خلال القرون الخمسة الأخيرة، انفردت بها في أربعة منها، وشاركتها أمريكا الشمالية في الخامس مشاركة احتلت فيها مكان الصدارة، فسؤالنا - إذن - يتحول ليصبح: ما الذي كان في أيدينا ثم ضاع؟ وما الذي كان ضائعا بالنسبة إلى «الغرب الشمال» ثم تحقق وحضر؟ ترى هل تبلغ شيئا من الحق إذا قلنا إنها القدرة القتالية، كانت لنا إبان القرون التسعة التي أشرنا إليها، ولم يكن لهم نظيرها، فهم وإن وفقوا إلى نصر في الحروب الصليبية، فقد كان نصرا مؤقتا وانتهى بهم الأمر إلى هزيمة؟ وأما بعد تلك القرون التسعة ، فقد انتقلت إليهم القدرة القتالية ولم يعد لنا منها شيء. على أن نلحظ هنا جانبا ستكون له في إجابتنا عن السؤال المطروح أهمية كبرى، وهو أن القدرة القتالية حين كانت لنا، كان سندها هو «الدين»، وأما وهي لهم فإن سندها هو «العلم»؛ فقد قاتلناهم - وكانوا هم المعتدين في الحروب الصليبية - دفاعا عن الدين بالإضافة إلى أرض الوطن. وأما هم إذ يقاتلوننا في مرحلة ريادتهم، فهم يقاتلون بحثا عن أرض يملكونها، وشعوب يحكمونها، ومواد خام يغتصبونها لصناعتهم بعد أن وقعت لهم ما يطلقون عليه «الثورة الصناعية».
صفحه نامشخص