بل إن أمريكا لم تسلم من أضرار الحروب فحسب، وإنما كانت الحروب بالنسبة إليها مصدرا هائلا للربح، وقوة دافعة ضخمة لاقتصادها. ففي الوقت الذي كان فيه الأوروبيون يقتتلون بضراوة، كانت كل معركة جديدة، وكل دماء جديدة تسيل، تعني مزيدا من الربح لمصانع الأسلحة الأمريكية، ووراء مصانع الأسلحة تأتي مئات الصناعات المساعدة والمساندة، وتعني مزيدا من فرص العمل للعمال ومزيدا من التوسع والازدهار لأصحاب الأعمال. وأقرب مثل إلينا ذلك الاختلال الذي طرأ على بنية الاقتصاد الأمريكي كله بعد انتهاء حرب فيتنام - وهي حرب محدودة، بالقياس إلى الحروب العالمية.
وهكذا لم يكن موقع أمريكا البعيد، المنعزل، مصدر تأمين لها من ويلات الحرب فحسب، بل أتاح لها أن تحول الحروب التي تدمر الآخرين إلى رصيد إيجابي يزيد من قوتها ويضاعف ثراءها.
ما الذي نستدل عليه من هذا كله؟ لقد كانت القضية التي نود إثباتها، في هذا الجزء، هي أن أمريكا ظاهرة فريدة لا تتكرر، وأن مجموعة العوامل التي تضافرت لكي تجعل أمريكا أقوى وأغنى دولة في العالم كانت بالفعل عوامل لم يتح مثلها لأي بلد آخر. ومن هنا فإن المقارنة بين أمريكا وبين أي بلد آخر، إذا كانت تأتي دائما لصالح الأولى، فإن ذلك يرجع أساسا إلى أن الظروف خدمت أمريكا على نحو يستحيل تحققه في أية حالة أخرى.
ونحن لا نعني بذلك أن الشعب الأمريكي قد وجد نفسه محظوظا بفعل مجموعة من المصادفات التاريخية الفريدة التي قدمت إليه القوة والثروة على طبق من ذهب. فمن المؤكد أن هذا الشعب قد بذل جهودا جبارة من أجل استثمار موارده. ولكن كانت هناك أيضا شعوب أخرى تبذل جهودا شاقة، دون أن تجني مقابلها ثمارا معادلة؛ لأن مجموعة الظروف التي تحيط بها غير مواتية، ولأن الموارد التي تستغلها محدودة أو شحيحة، أما في حالة أمريكا فإن كل جهد يبذل كان كفيلا بتحقيق أعظم النتائج، لأن كل شيء كان متوافرا.
وتترتب على هذه القضية نتيجة في غاية الأهمية: هي أن أمريكا لا تصلح أصلا لكي تكون «نموذجا»؛ ذلك لأن من طبيعة الظاهرة الفريدة أن تحدث مرة واحدة، وألا تقبل المحاكاة. بل إنني سأفترض افتراضا خياليا، فأقول إن أمريكا ذاتها لا تستطيع أن تكرر نفسها. فلو فرضنا أن قارة مثل أمريكا قد اكتشفت في مكان ما من العالم، في الظروف الراهنة، فإن من المستحيل أن يظهر فيها من جديد أقوى وأغنى مجتمع في العالم؛ لأن ظروف العالم الحالية لن تسمح لمستوطني هذه القارة بإبادة شعبها الأصلي بسهولة، ولن تسمح لهم بجلب ملايين العبيد واستغلال قوة عملهم بلا مقابل، لأن وجود نظم اقتصادية وسياسية منافسة لن تتيح لهم حرية الحركة والتوسع والامتداد التي كانت متوافرة لهم في القرنين الأولين من تاريخهم.
الفصل الثالث
أمريكا من الداخل
إذا كانت أمريكا، كما بينا من الفصل السابق، ظاهرة لا تقبل التكرار، ومن ثم لا تشكل نموذجا يمكن الاقتداء به في مجتمعات أخرى، فإنا نود أن نثبت في هذا الفصل أن الإنسان الأمريكي بدوره نوع فريد من البشر، وأن نمط الحياة التي يعيشها هذا الإنسان لا يصلح أصلا للعالم الثالث، وللإنسان العربي بوجه خاص.
إن الإنسان الأمريكي يتمتع، دون شك، بسعادة من نوع خاص. فهو - على وجه الإجمال - غني، تحيط به أحدث منتجات التكنولوجيا وأكثرها تطورا. وهو يستهلك بمعدل عال جدا، يفوق استهلاك الفرد الواحد فيه استهلاك عشرات الأفراد في البلاد الفقيرة، ويحيط نفسه بمجموعة من «المقتنيات» التي تحسده عليها معظم شعوب العالم.
وهو يشعر بأنه حر، بل إنه ينتمي إلى أكثر المجتمعات البشرية حرية. وبالفعل يعطيه الدستور ضمانات تؤمنه ضد تعسف السلطة، ويمنحه حق التعبير عن نفسه ومحاسبة حكومته دون عائق، ويكفل له اختيار ممثليه دون تدخل سافر، وسحب ثقته ممن يسيئون استغلال سلطتهم حتى لو كانوا في أعلى قمم جهاز الدولة. ويمتد شعور الإنسان الأمريكي بالحرية حتى يصل إلى تفاصيل حياته الشخصية: فلديه حرية كاملة في اختيار نوع التعليم الذي يريد، وليس هناك - نظريا - أية حواجز طبقية تمنع أبناء الشعب من تلقي أرفع أنواع التعليم. وهو حر في اختيار الطبيب الذي يعالجه، وفي استطاعته، لو شاء، أن يتلقى الرعاية الطبية في أعظم دور العلاج وأرقاها. وهو حر في اختيار صاحب العمل الذي يعمل عنده، وفي أن يغيره كما يشاء لو أتيحت له فرصة أفضل، بل إن الابن أو الابنة لهما الحرية في ترك منزل العائلة والبدء في حياة مستقلة، ماديا ومعنويا، منذ اللحظة التي يشعران فيها بالرغبة في الاستقلال، وهكذا.
صفحه نامشخص