والعقل هو أيضا الذي يستشف العلية الغائية من وراء الظواهر المحسوسة، ويرى بين الغائية والفاعلية علاقة السابق واللاحق، فإذا رفعنا الغايات رفعنا العقل، وفاتنا التفسير النهائي للأشياء المستند على قضيتين كبريين: أولاهما أن كل فاعل فهو يفعل لغاية، والثانية أن كل مفعول فقد كان غاية قبل أن يفعل، والاثنتان متعادلتان ينظر في كل منهما إلى وجهة. وإنما قدمنا الكلام على العلية الفاعلية لظهورها ولنفعها في الفحص عن العلية الغائية، التي وإن كانت أولية مثلها، إلا أنها أدق على الفهم.
وخصوم الغائية هم الحسيون كافة، ينضم إليهم بعض العقليين، فالحسيون يجحدون العقل ومدركاته، فلا يعتقدون بترتيب سابق، بل يدعون أن كل ما يتكون من أشياء ويحدث من أفعال فهو نهاية ونتيجة لعوالم مادية آلية، ولا تحقيق لغاية. ويفسرون الطبيعة بقولهم إن ذرات المادة تحركت منذ القدم بجميع الحركات الممكنة، وائتلفت بجميع الهيئات، وانتهت إلى الهيئات الراهنة. وإننا نحن الذين نفترض الغايات افتراضا لما نشعر به من توخينا الغاية في أفعالنا، فنتصور الطبيعة على مثالنا، ونقول مثلا: إن للطير جناحين (لكي) يطير، بينما التجربة لا تدل على أكثر من أن الطير يطير؛ (لأن) له جناحين، والجناحان تكونا اتفاقا. هكذا يقولون، والمحدثون منهم آخذون عن القدماء بدون تغيير، أعني عن ديموقريطس، إمام المذهب المادي وتابعيه أبيقور ولوكريس.
وأشياعهم من العقليين يخضعون الطبيعة للآلية كي يفرضوا على العلم الطبيعي أن يكون هندسة وميكانيكا، ومن ثمة ضروريا ومعقولا في عرفهم، فيضعون في المادة قوانين ذاتية تنظمها، ولا يدعونها للمصادقة، وبينما يقف بعضهم عند هذا الحد، مثل سبينوزا، يذهب بعض آخر، مثل أفلاطون وديكارت، إلى إخضاع هذه الآلية لصانع أو خالق، فينتهون إلى سيطرة الغائية على الآلية في جملة الكون. فلنشرع في تعريف العلية الغائية وفي إثباتها. «العلة الغائية هي التي لأجلها الشيء (أو الفعل، وهي) علة بماهيتها ومعناها لعلية العلة الفاعلية، ومعلولة لها في وجودها.» هذه العبارة لابن سينا
33
إيجاز للمذهب العقلي الصحيح الصادر عن أرسطو وعن أفلاطون من قبله، وهي تشير إلى دليل أول بقولها: إن الغائية علة لعلية العلة الفاعلية: ذلك بأنه لولا الغاية لاستوى الفعل وعدمه عند الفاعل، فاستحال عليه الميل إلى أحدهما، واستمر على السكون، فالفعل كما كان فعلا، دليل على أن الفاعل قد ارتضى غاية ارتضيت له غاية، وأن فعله كان لأجل تحقيق هذا الغاية. وبتعيين الغاية يتعين الفعل، فإن الفاعل يبذل فعلا معينا ليحدث مفعولا معينا، والفعل المعين هو الذي يتجه إلى غايته، أي الذي ينتهي بذاته إلى حد مناسب له. ولولا هذا الحد أو الغاية لكان أي فعل يحدث أي مفعول اتفاقا ومصادفة، وهذا ممتنع لامتناع تحرك الفاعل إذا لم تعين وجهة فعله. فالفاعل، كما أنه يحتوي على علة البدء بالفعل، يحتوي كذلك على علة اتجاه الفعل. فالعلة الفاعلية مبدأ الحركة، والعلة الغائية مبدأ قصد الحركة، وهي نهايتها متى صدر الفعل.
هذا بالنسبة إلى الفعل في كل فاعل. فإذا ما نظرنا إلى الفاعل في ذاته، كماهية أو طبيعة، وجدناه كلا منظما، مطرد الاتجاه إلى تحقيق غايات معينة بوسائل معينة هي الخصائص والميول والغرائز والأعضاء. وتعيين الفعل ووسائله أو شروطه، دليل على أن الفعل الصادر عن قوة ما أو ميل أو غريزة أو عضو، هو من جهة أخرى علة هذه القوة، أي الغاية التي وجدت القوة لأجلها، فهو صادر عنها وهي مهيأة له: فلولا الطيران مثلا لما فهم تركيب الجناحين، فالطيران علة الجناحين على نحو ما، أي علتهما الغائية أو ما لأجله الجناحان. وكذلك يقال في الرؤية للعين، وفي السمع للأذن، وفي كل قوة على العموم، فإنها مهيأة لفعلها.
وعلاوة على ترتيب كل موجود على خياله، نشاهد ترتيبا للموجودات فيما بينها: فالحركات السماوية آية في الانسجام، والألفة الكيميائية آية أخرى، فكأن العناصر الطبيعية يختار كل منها أليفا، وبمقدار محدد، فتوجد عنها نفس المركبات. والأرض بينها وبين الشمس مسافة تتيح للحياة الوجود والنمو، والتربة تركيبها ضامن لغذاء النبات والحيوان، وتركيب الهواء يجعل بعضه صالحا للنبات وبعضا آخر صالحا للحيوان، فيشهق هذا ما يزفر ذاك، بحيث لولا النبات ما عاش الحيوان. وثمة أمثلة عديدة لا تحصى إلا بإحصاء العلوم، فإن كل علم عبارة عن ترتيب ما، وبين العلوم ترتيب وترابط، والذين يستهينون بالترتيب محتجين بما يبدو من إخلال به، يسلمونه من حيث لا يريدون؛ إذ ليس يعتبر النقص كذلك إلا بالقياس إلى غاية.
وإذا أخذنا بتمييز كنط بين غاية باطنة في الموجود وغاية ظاهرة خارجة عنه، لم نعط هذا التمييز سوى قيمة اعتبارية: فالنبات والحيوان غايتهما الباطنة من الاعتداء حفظ حياتهما، والأغذية غايتهما الظاهرة، فالغايتان متحدتان. ولا يوجد مثل هذا التقابل إلا باعتبار النسبة من الأعلى إلى الأدنى، أما الأدنى نفسه فهو غاية ظاهرة للأعلى وليس له غاية باطنة تقابله، ففي كل ترتيب الأدنى مرتب للأعلى وحسب. وقد يتعذر تعيين الغاية الظاهرة لموجود ما، ولكن ترتيب هذا الموجود في ذاته دليل كاف على أنه أوجد لنفع وفائدة. وكم من المنافع والفوائد ظلت خافية أزمانا متطاولة ثم بانت للباحثين. فمن المعقول أن نقيس الحاضر إلى الماضي وننتظر استكمال علمنا بالوجود.
فلا محيص من الفرق بين الغائية والمصادفة فرقا حاسما: والواقع أننا نرى البذرة تخرج نباتا من نوعها فندرك أن هذا طبيعي، ونرى المطر والبرد يهلكان النبات فلا نحكم بأن المقصود بهما هذا الإهلاك، بل ندرك أن الأمر يحدث مصادفة. وكلما أردنا نعلل فعلا ما من أفعال أي موجود كان، وجدناه يقتضي غاية بالضرورة، كما أنه يقتضي فاعلا. ليس مبدأ الغاية محض تطبيق تجربتنا الباطنة على التجربة الظاهرة، ولكنه مبدأ مطلق مهيمن على كل موجود وكل فعل. ولا نستثني الإنسان؛ فأفعاله البدنية تعلل بتركيب بدنه، كما تعلل أفعال سائر الموجودات بتركيبها، فتؤدي أعضاؤه وظائفها، أي غاياتها دون أن يريد أو يحس، كالقلب والمعدة وما إليهما. وأفعاله المعنوية وغاياته المقصودة تنتهي إلى غاية أخيرة مركوزة فيه طبعا، هي طلب السعادة؛ إذ إنه يفعل كل ما يفعل ابتغاء أن يصير سعيدا، ولولا هذه الغاية لما خرج من القوة إلى أي فعل، بحيث تعود الغايات المباشرة في الإنسان، أي المعلومة المقصودة، إلى غاية غير مباشرة، وتعود جميع الغايات غايات مباشرة لعلة تصورتها وأرادتها وأوجدتها. فإذا سأل الحسيون، وهم يسألون فعلا: كيف تفعل الغاية وهي معدومة في الحال رهينة بالاستقبال؟ أجبناهم أنها موجودة حالا في قوة الماهية أو الطبيعة، فعالة بها.
وشتان بين هذا التفسير الصادر عن فطرة العقل، وبين التفسير الحسي المعتمد على المصادفة كل الاعتماد: فأولا يفترض الحسيون أن جميع التأليفات الممكنة بين أجزاء المادة قد حدثت تارة أو طورا، وأن كل موجود فهو نتيجة لمحاولات كثيرة، بيد أننا نستطيع أن نفترض أن أبسط التأليفات هي التي تكررت بلا انقطاع لبساطتها وسهولة ائتلافها، وأن التأليفات المعقدة لم تحدث قط أو حدثت نادرا لتعقدها وصعوبة اجتماعها، فكيف نفسر وجود الكائنات المعقدة؟ وثانيا: هم يكلون إلى البيئة غير الحية غير الحاسة غير العاقلة، تكيف المادة حتى تصير حية حاسة عاقلة. والفرق هائل والمسافة سحيقة بين كل درجة من هذه الدرجات والتي تليها، فلا تعبر. وثالثا: هم يتصورون هذا التكييف حركة نحو الأحسن الأكمل، والحركة في ذاتها ممكنة أيضا نحو الأسوأ، فلم حدثت في سبيل التقدم؟ إذا أردنا جعلها معقولة فيجب أن نفترض في السديم الأول اتجاها غائبا؛ إذ إن المادة لا تنتظم من تلقاء ذاتها، وهي بذاتها لا تقتضي تركيبا معينا، فكيف ائتلفت أجزاء الجناحين والأذن والعين وما إلى ذلك من أعضاء عجيبة مدهشة؟
صفحه نامشخص