وقال ابن رشد: «هذا الاسم عند المتفلسفين منقول من الجهر عند الجمهور، وهي الحجارة التي يغالون في أثمانها، ووجه الشبه بين هذين الاسمين أن هذه لما كانت إنما سميت جواهر بالإضافة إلى سائر المقتنيات لشرفها ونفاستها عندهم، وكانت أيضا مقولة الجوهر أشرف المقولات، سميت جوهرا.»
10
واصطلح على اسم العرض للدلالة على ما يعرض للجوهر، أو «أنه منقول مما يدل به عند الجمهور، وهو الشيء السريع الزوال».
11
وهكذا ندرك مبدأ الجوهرية على أنه تعيين لمبدأ الذاتية: «الموجود واحد بعينه تحت أحواله المتعددة المتغيرة.» ومن هذه الوجهة لا يخرج الموجود عن هذين القسمين، فإنه إما جوهر وإما عرض.
للجوهر إذن تعريفان، فهو: الموجود المتقوم في ذاته، وهو موضوع الأعراض أي محلها وحاملها، الأول بمثابة الحد، والثاني بمثابة الاسم. فالأول مفضل، وقول: «المتقوم في ذاته» خير من قول: «الموجود لا في موضوع»، على كثرة ورود هذا التعبير عن ابن سينا وابن رشد، وبيانه بأن الجوهر «يقال لكل موجود لذاته لا يحتاج في الوجود إلى ذات أخرى تقارنها حتى يقوم بالفعل».
12
أجل إن القولين يرجعان إلى واحد، فالمتقوم في ذاته هو الموجود لا في موضوع، غير أنه يجمل صوغ التعريف في صورة موجبة كلما أمكن ذلك لما هو معلوم من أن التعريف السالب يقول ما ليس الشيء هو ويدع ماهيته خافية، بينما التعريف الموجب يقول ما الشيء هو ويؤدي إلى الذهن معنى ثبوتيا ربما لا يؤديه السلب إلا بشيء من العناء، فالإيجاب متقدم على السلب. ثم إن قبول الأعراض ليس شرطا للجوهرية بإطلاق، هو وظيفة ثانوية للجواهر الحادثة، ويخرج منه الله الذي هو جوهر محض غير قابل لعرض ما، على حين أن التعريف الأول شامل ينطق على كل جوهر.
أما العرض فتعريفه مقابل للتعريف الثاني للجوهر، فإنه «ماهية موجودة في آخر وجودها في موضوع أو محل»، فهو «وجود مقبول لا غير» (نجاة 204). فينبغي أن يفهم حلوله في موضوع بمعنى اتحاده به وتقومه فيه ، لا كحلول الجزء في الكل، أو الجسم في المكان، أو المعلول في العلة! فليس للعرض من حقيقة إلا بالجوهر: كالشكل واللون والحركة فإنها لا توجد إلا في موضوع، وسنزيد هذا بيانا فيما يلي. ولنزد الآن في بيان معنى الجوهر بإيراد الاختلاف في استعمال اللفظ، فنقول:
كان أفلاطون يرى أن المثل هي الموجودات الحقة، وأن الأجسام الطبيعية أشباح لها، فثبت عنده أن المثل هي الحقيقة باسم الجوهر، وأن الجزئيات إن أطلق عليها هذا الاسم فبالتبعية وبصفة ثانوية، قال: «لا تسم الماء المحسوس ماء، وإنما قل إنه شيء شبيه بالماء.» وافترق عنه أرسطو؛ إذ ثبت لديه أن المثل لما كانت كليات فيستحيل أن يحصل لها وجود، وأن الموجود حقا هي الجزئيات، سواء أكانت مادية محسوسة أو روحية معقولة: كالنفوس الإنسانية والعقول العلوية، فكان يسميها جميعا جواهر أول، ويسمي المعاني الكلية الماثلة في عقلنا جواهر ثواني، وينبه على أن اسم الجوهر إنما يطلق على الجواهر الأول والجواهر الثواني لا بالتواطؤ بل بطريق التناسب من حيث إن قوام الجزئي هو بذاته لا بالكلي، وقوام الكلي هو بالجزئي، فالجزئي أولي بالجوهرية. وإذا تأملنا في هذين النوعين من الجوهر وجدنا أن الجوهر الأول هو ما ليس في موضوع ولا يحمل على موضوع، كزيد مثلا. بينما الجوهر الثاني وإن كان ليس في موضوع فهو يحمل على موضوع، كإنسان في قولنا: «زيد إنسان.»
صفحه نامشخص