فليس بصحيح أن العقل النظري عجز عن بلوغ إلى ما بعد الطبيعة والخوض في مسائله، وكنط نفسه يقدم لنا الشاهد على ذلك بتدليله الذي لخصناه: فما هذا التدليل إلا نظر فيما يترتب على معنى الواجب المعلوم بالوجدان من نتائج نظرية. والأدلة التي يوردها كنط قد وردت من قبله بزمن طويل، إنه يمضي من الواجب إلى الحرية، ومن النفس إلى الخلود، ومن الخلود إلى الله، بقوة ارتباط هذه الحدود فيما بينها. فهو إذن يستدل استدلالا نظريا، ويقر بمبدأ العلية وبلزوم التالي من المقدم، وكل هذا حدس عقلي، إن جاز هنا فهو جائز في سائر المسائل على نفس النهج، وصار في مقدور العقل النظري أن يقيم ما بعد الطبيعة دون دوران من العقل النظري إلى العقل العملي. فكنط يؤيد مذهب الحدس العقلي من حيث لا يدري، ويقدم الشاهد على قوة فطرة العقل وغلبة الطبع للتطبع.
ويكاد يكون مذهب أوجست كونت مرسوما على غرار مذهب كنط؛ فإنه يبدأ بنقد العقل وبيان نسبية المعرفة، لكن لا بامتحان أفعال العقل ومعانيه ومبادئه؛ فقد يكون هذا لونا مما بعد الطبيعة، بل باستعراض تاريخ العقل كما يتخيله هو، فيقول إن العقل قد مر بأدوار ثلاثة: دور لاهوتي أو ديني، ودور ميتافيزيقي أو فلسفي، ودور واقعي أو علمي. ففي الدور اللاهوتي كان الإنسان يتوهم الظواهر حادثة بفعل كائنات عليا أو آلهة، وفي الدور الميتافيزيقي استبدل بالعلل العليا عللا خفية في باطن الأشياء، وما هي إلا معان مجردة جسمها له الخيال، فقال: العلة والجوهر والماهية والقوة والله والنفس والحرية ... إلى غير ذلك من المجردات الجوفاء. وأخيرا وصل إلى الدور الواقعي، فأدرك استحالة الحصول على معارف مطلقة من هذا القبيل، وقصر همه على تعريف الظواهر واستكشاف قوانينها. هذه الطريقة هي التي أفلحت في تكوين العلم، وهي التي يجب أن تحل محل الفلسفة، فكلما أمكن معالجة مسألة بالملاحظة والاختبار انتقلت هذه المسألة من الفلسفة إلى العلم، وكان حلها العلمي هو الحل النهائي. فالمذهب الواقعي يتوخى الواقع المحسوس، ويتجاهل النظريات الفلسفية جميعا، لا ينفدها ولا يقرها؛ لأنها ميتافيزيقية خالية من كل معنى، ويستعيض عن الميتافيزيقا بفلسفة العلوم، أي بترتيب النتائج العلمية والبلوغ إلى أقل عدد مستطاع من القوانين الكبرى. وبذا يفترق عن المادية والإلحاد؛ فإنه لا ينكر النفس والله، ومثل هذا الإنكار ميتافيزيقا أيضا. وموضوع الميتافيزيقا غير مدرك، يشبه (على حد قول «ليتري» أنبه تلاميذ كونت) بحرا تضرب أمواجه شواطئنا، ولا نملك لخوضه سفينة ولا شراعا.
فدعامة المذهب نظرية الأدوار الثلاثة، لكن أحدا لا يستطيع أن يقيم الدليل على أنها تاريخية. فإن قيل إن الدور اللاهوتي يوافق ما قبل التاريخ وأوائل العهد التاريخي، أجبنا: إن الإنسان قد عاش في تلك العصور الطويلة وهو يحارب قوى الطبيعة ويستغل ذخائرها ويخترع الصناعات للاستقواء في تلك الحرب وذلك الاستغلال، وإن كل هذا لم يكن ليتسنى بغير الملاحظة الدقيقة والوقوف على طبائع الأشياء. وإن قيل: إن الدور الميتافيزيقي يوافق العصر القديم، سألنا عن الأرصاد الفلكية، والصناعات المختلفة في المدنيات الشرقية، وطب بقراط، وهندسة إقليدس، ومخترعات أرشميدس، وطبيعيات أرسطو ومنطقياته وأسلوبه التجريبي في علوم الحياة، وفلسفة ديموقريطس وأبيقور، وكيمياء العصر الوسيط: أليست هي أدخل فيما يدعوه كونت بالروح الواقعي منها في التفسير بقوى خفية وحجج لفظية؟ وإن كونت ليعترف بأن الرياضيات واقعية منذ آلاف السنين، أي منذ الدور اللاهوتي، بل بأنها لا يمكن أن تكون إلا واقعية، فكيف يقال إن العقل لم يعرف الروح الواقعي إلا في العصر الحديث؟ وإن قيل إن الدور الواقعي يوافق العصر الحديث، أحلناهم إلى ما هو باد في الفلسفة الحديثة من الاهتمام البالغ بالأخلاق والدين، ولاحظنا أن كونت نفسه وضع «ديانة الإنسانية» في أواخر حياته لا في شبابه كما تقتضي نظريته.
الأحق أن يقال إن اللاهوت والفلسفة والتجربة مظاهر الحقيقة الشاملة، وإنها قد تقارنت في الأفراد والأمم والعصور وتكاملت مع تفاوت تبعا لمؤثرات مختلفة. وعلى فرض أن الفكر يتطور في الفرد وفي الإنسانية على هذا الترتيب الثلاثي، فليس ينال هذا من قيمة العقل في شيء، فما كان التطور التاريخي مرادفا للارتقاء ضرورة، وما كان الخطأ نافيا وجود الحقيقة وإمكان الكشف عنها. لقد قضى الناس آلاف السنين وهم يعتقدون أن الأرض ساكنة ثابتة وأن الشمس تشرق وتغرب، كما اعتقدوا أخطاء علمية لا عدد لها، فهل يعتبر هذا اعتراضا على العلم الحق وسببا للتنكر له؟ فلم تعتبر أخطاء العقل مطاعن في مقدرته وهو قمين بتصحيحها؟ ولم يتخذ من الأخطاء في الفلسفة والدين أسلحة ضدهما، وفي مقدور العقل أن يصل فيهما إلى كثير من الحقائق؟ هذا فيما يختص بالأدوار الثلاثة.
أما فيما يختص بالفلسفة؛ فإن مصدر الحملة عليها أن كونت قد أساء فهم معناها، وأنه توهم أن العلم الواقعي يكفي نفسه ولا يفتقر إلى أساس فلسفي. والواقع أن العلم الواقعي لا يذهب إلى المسائل القصوى الدائرة على المعرفة إطلاقا، فلا يبرر أفعال العقل من تصور وتصديق، ولا المبادئ الكلية الضرورية، ولا القوانين العلمية التي هي عند كونت وأضرابه أقصى ما تصل إليه المعرفة كأنها قد وضعت أنفسها وكأنه يمكن أن يكون لها أصل ومحل غير ماهيات الأشياء. وليس يغني العلم الواقعي شيئا عن الفلسفة، فليست «فلسفة العلوم» التي يريد الواقعيون أن يقيموها مقام الفلسفة بمغايرة للعلوم الطبيعية حتى تعد علما جديدا وتعلق عليها آمال جديدة؛ فإن النتائج الكبرى للعلوم هي من جنس العلوم. أما المسائل الفلسفية فمتمايزة منها موضوعا ومنهج بحث، وإذا كان منها ما يحتمل أن يبحث تجريبيا، كمسائل المادة والحياة من نامية وشعورية، فإن هذه المسائل أنفسها تقتضينا النظر فيها من وجهة فلسفية. وإن من مسائل الفلسفة ما لا يحتمل المعالجة بالتجربة مطلقا، كمسائل النفس والله والواجب والحق والعدل؛ لأن موضوعها غير محسوس ظاهرا وباطنا فلا يتناوله المنهج التجريبي؛ ولأن العلم الواقعي يقرر ما كان كائنا لا ما يجب أن يكون، وهذه المسائل من الأهمية بالنسبة لحياتنا العقلية والخلقية بحيث يستحيل إغفالها، فإنها إنسانية تنشأ في كل عقل وتهم كل إنسان. إن المذهب الذي يأبى وضعها ومحاولة حلها لهو مذهب أبتر خاطئ، فالعلم الواقعي محصور في دائرة محدودة، والفلسفة تمتد فيها وراء هذه الدوائر وتماسها في جميع نقاطها.
ونجد نفس المقاصد عند هربرت سبنسر؛ فإنه يحصر موضوع المعرفة في جملة العلوم الواقعية، ثم يقول إن هذه العلوم مفتقرة إلى بضعة معان كلية هي في ذاتها فوق متناول العلم، كمعاني المادة والحركة والمكان والزمان والجوهر والقوة والوجدان والشخصية، فالنظر في العالم المدرك يؤدي بنا إلى اللامدرك. فبين المعرفة الكاملة التي تحيط بجميع خصائص الشيء وبين الجهل المطبق الذي يرجع الشيء معه إلى لفظ أجوف، يوجد وسط هو معرفة وجود الشيء دون ماهيته. وعلى ذلك فلا محل لما بعد الطبيعة، والبحث فيه ينتهي إلى متناقضات كثيرة. فالقوة القائمة خارج الفكر والتي تدل عليها بتلك المعاني لا تشبه ما نعرفه في داخل الفكر. وليس يقابل ما بعد الطبيعة في عقلنا سوى استعداد طبيعي لتوحيد المعرفة، وهذا الاستعداد يجد رضاه في الفلسفة الواقعية التي هي عبارة عن توحيد العلوم توحيدا تاما بواسطة أعم قانون علمي وهو قانون التطور من المتجانس إلى المتنوع. بيد أن هذه اللاأدرية ليست مرادفة للإلحاد؛ فإنها تعترف بالمطلق، وتعتبره أسمى من الإنسان، وهي إذن تدع الباب مفتوحا أمام الدين. وفي الإنسان أصل عميق للعاطفة الدينية، فهي إذن مشروعة، وما إن تعين حدود المعرفة على ما ينبغي حتى يتفق العلم والدين على أن ماهية الوجود مجهولة، وينحصر كل في دائرته.
كل ما قلنا ردا على كونت يقال في الرد على سبنسر؛ فالزعيمان الحسيان يرفضان ما بعد الطبيعة كعلم معلوم، ويقبلانه كموجود مجهول، وحجتهما في الرفض أن العقل يرتطم بالمتناقضات حالما يعالج مسائله. وقد جمعا هذه المتناقضات من كتب سبينوزا وبيل وكنط وهملتون بعض اللاهوتيين، وما هي بمتناقضات في الظاهر (ف ح: 102، 103، 104، 166، ب-ه). ونحن نرى التناقض عندهما؛ إذ يقولان: إن العلم يؤدي إلى المنطق، وإن العلم مظهر المطلق، ثم يقولان: إن المطلق غير معقول، كأنما مجرد الإقرار به لا يعد إدراكا ما، وكأنما مظهر الشيء يمكن أن يكون مغايرا للشيء حتى لا ينم عنه بتاتا. وماذا يعنينا من المطلق إذا لم يكن شخصا، ولم يكن باستطاعتنا أن نرتب علاقة بيننا وبينه؟ وما الدين الذي لا يشتمل ولا يمكن أن يشتمل على عقيدة ما؟ وحجتهما في قبول ما بعد الطبيعة أن مسائله مكملة للعلم الواقعي، أو مستندة على أساس من الشعور عميق، فهي إذن مسائل صحيحة، ويجب أن يكون لها حلول صحيحة، وإلا خامرنا شك متصل أن العلم المجهول لنا في هذه الحياة قد يكون غير معقول في ذاته، فلا يتحقق الغرض المنشود منه وهو أن يكون منبع الدين. فما بهذه الطريقة يبرر ما بعد الطبيعة.
وأقل منها تبريرا له طريقة وليم جيمس زعيم البرجماتية: فقد وجد هو أيضا أن العقل النظري لم يوفق ولن يوفق إلى حسم الخلافات في المسائل الميتافيزيقية والأخلاقية. وحسمها ضروري لنا كحل الضرورة لتوقف سلوكنا على ما نختار من حلول، فصح عنده أن المبدأ المطلق هو العلم لا النظر، وأن المنهج الصائب هو الذي يلحظ النتائج العملية المنطوية في كل رأي والمتحققة عنه فعلا، فإننا حينئذ نرى المسائل تحل بغاية اليسر. وترجع المسائل إلى اثنتين رئيسيتين هما الروحانية والمادية، والروحانية تتضمن الاعتقاد بالله والخلود والحرية، ومن ثمة بإمكان تحقيق كمالنا في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى، فهي منشطة حافزة إلى العمل، بينما المادية المتضمنة الإلحاد والفناء والجبرية مثبطة للهمة صارفة عن العمل. فليست آراؤها قضايا نظرية، قابلة للجدل والبرهان، وإنما هي مخترعات نرمي بها إلى الإفادة من الوجود، مثلها مثل الآلات التي نصنعها لاستخدام القوى الطبيعية، فما بان منها نافعا كان صالحا. وإن العمل الإنساني ليذهب إلى حد تكييف العالم، فقد كانت المادية في الأصل مرنة، ثم تعينت شيئا فشيئا، وخاصة بفعل الإنسان إذ أحدث فيها «أشياء وحالات» تبعا لرغباته ومنافعه. فالإرادة الإنسانية من أهم العوامل، إن لم تكن أهمها، في تكوين العالم. فإذا اخترنا الحلول الروحية وعملنا بها حققنا عالما روحيا وقضينا على المادة.
كلا، ليس يذهب العمل الإنساني إلى هذا الحد. إذا كانت مادة العالم متجانسة في الأصل فكيف بدأ التطور؟ وكيف ظهر الإنسان وغاياته؟ إن المرونة الأولى يلزم عنها حتما جمود العالم على حال واحدة، كما يلزم عن نظرية التطور؛ إن أمكن أن يبدأ، أن الإنسان أحدث الكائنات عهدا، فلم يوجد إلا بعد أن تعين العالم، فمن التناقض أن يجعل منه أهم عامل في التطور. لا سلطان لنا على طبائع الأشياء وخصائصها، وإنما نحن نعرفها كما هي أولا، ثم نكيف الاختراع والعمل على حسابها، فنستخدم مواد معينة على أنحاء معينة لتحقيق غايات معينة. فلا يمكن الادعاء بأن الحق في النظر وليد النجاح في العمل، ويجب القول بأن النجاح مرهون بالحق أي بمطابقة أفكارنا للأشياء، وإلا كان الإخفاق محتوما. وكيف يكون نجاح قضية حسابية كهذه 2 + 2 = 4؟ إن حقية هذه القضية وأمثالها ذاتية لها، ولا معنى للقول بأن حقيتها في نجاحها.
وتقدم النظر على العمل لازم كل اللزوم في الحياة الخلقية والدينية، وذلك من وجهين: الأول تفسير نشأة مثل هذه الحياة، والثاني: تبرير فاعلية فكرتها. فمن الوجه الأول نسأل: بأي حق يميز البرجماتيون بين ميول عليا وميول سفلى، والميول جميعا سواء في كونها ظواهر شعورية، وهم ينكرون أن يكون للأشياء في أنفسها حقائق وقيم متفاوتة؟ فلم اخترعت الفضيلة وهي تضحية وحرمان؟ وإذا اقترنت الصحة بالعفة أحيانا كثيرة، واقترن المرض بالشره، فكل ما يوحي به هذا الاقتران هو أن الاعتدال وسيلة سلامة البدن، وأن حساب النفع والضر كفيل بتوفير السعادة، فنبقى في مستوى الحياة النامية أو الفسيولوجيا. أما الفضيلة فلا تنبت فكرتها إلا إذا كان للإنسان نفس روحية معدة لحياة روحية، وهذا ما يتعين البرهنة عليه، والبراجماتيون ينفرون من البرهان النظري.
صفحه نامشخص