ليس أبعد عن حقيقة الحكم من هذه التفسيرات، فليس الحكم إسناد لفظ إلى لفظ أو معنى إلى معنى حتى يقال إن اللفظين أو المعنيين مختلفان وإن تركيبهما معا غير سائغ. إن اللفظ دال على معنى، والمعنى دال على شيء هو موضوع الإسناد، كما لو قلنا: «الإنسان فان» و«النفس باقية»، فلسنا نسند لفظ الفناء إلى لفظ الإنسان، ولا معنى الفناء إلى معنى الإنسان بما هو معنى، ولكنا نسند الفناء إلى الإنسان بما هو موجود حقيقي أو ممكن. فالحكم يوحد بين موضوع ومحمول مختلفين تعريفا موحدين وجودا لكون المحمول متحققا في الموضوع.
ويقال مثل ذلك في تعدد المحمولات؛ فإن الكثرة ههنا ليست كثرة موجودات مستقلة، ولكنها كثرة وجهات لموجود واحد. فالتوحيد في الحكم صورة للوحدة في الشيء، وكاد يكون نقد السفسطائيين صائبا لو كان قولنا: «الثلج بارد» يعني أن الثلج هو البرودة، وكان قولنا: «الإنسان طيب» يعني هو أن الإنسان هو الطيبة. ولكن المقصود أن للثلج صفة البرودة، وأن للإنسان صفة الطيبة، والبرودة والطيبة وكل محمول فهو معنى مجرد. ولولا التجريد لما أمكنت إضافة لأن الأشياء موجودة في نفسها والإضافة نسبة ذهنية.
والفارق الجوهري بين الحكم وتداعي الصورة هو أن في الحكم رابطة تعني إسناد المحمول إلى الموضوع إسنادا صريحا موعيا مسبوقا بمضاهاة، على حين أن التداعي يتم آليا دون مضاهاة ولا إسناد، فلا تدرك النسبة فيه إلا بعد حدوثه. وهو إنما يحدث بسبب ما بين الصور من تشابه أو تضاد أو تقارن، على حين يحدث الحكم بسبب حقيقة الموضوع والمحمول. فحين أقول: «الثور مجتر» أثبت نسبة معينة بين الثور وبين نحو معين من أنحاء الهضم وأنفي عنه سائر الأنحاء المعروفة في سلم الحيوان والمتواردة على ذهني بالتداعي. أجل لقد وجدت «المجتر» بالتجربة حين عرفت «الثور» وأنا أتوقع الأول عند إدراك الثاني، لكن هذا التوقع يتخذ في الحكم معنى مغايرا لمعناه في التداعي، وهو أن الاجترار صفة جوهرية في الثور وأن توقعي ضروري لابتنائه على هذا الأساس.
ولو صدق الرأي الحسي لكانت أحكامنا كلها موجبة تسند محمولا إلى موضوع لإدراكنا إياهما مجتمعين، وليس السلب موضوع إحساس. وكانت أحكامنا كلها مطابقة للظواهر المحسوسة، فلم نقل إن الأرض تدور حول الشمس، وإن الشمس أكبر من الأرض، وغير ذلك مما هو مكتسب بالبرهان العقلي ومعارض للتجربة المتمكنة فينا بالتداعي منذ أول نشأتنا. فالحكم فعل عقلي يثبت نسبة معقولة بين محمول هو دائما معنى مجرد وبين موضوع هو معنى مجرد في القضايا العلمية، وهذا يخرجه من دائرة الحس بالمرة.
الفصل الثالث
القياس
(1) تعريف الاستدلال
التركيب والتفصيل في الأحكام يتمان دفعة في البديهية منها، فما من أحد يتردد في الحكم بأن الكل أعظم من الجزء. ولكن مسائل كثيرة تعرض لنا ولا ندري أول الأمر أي حكم نتخذ فيها، ونعني بالمسألة عبارة مؤلفة من موضوع ومحمول تقتضينا الإجابة بإضافة المحمول إلى الموضوع أو بنفيه عنه، فنعمل على الاهتداء إلى واسطة نضاهي بينها وبين الحدين، فإن وافقاها حكمنا بأنهما متوافقان، كما نحكم بأن الشيئين المساويين لثالث هما متساويان، وإن وافقها أحدهما وباينها الآخر حكمنا بأنهما متباينان. ولا وجه لافتراض أن الحدين جميعا قد يباينان الواسطة؛ إذ في مثل هذه الحالة تمتنع المضاهاة، فيمتنع الاستدلال، كما تنبه على ذلك القاعدة القائلة: إن القضيتين السالبتين لا تنتجان. فالاستدلال انتقال من معلوم هو المضاهاة إلى مجهول هو نتيجتها.
وماهية هذا الانتقال هو ذلك اللزوم الذي نعبر عنه في النتيجة بقولنا: «إذن»؛ فإنه يزيد على النسبة بين الحدين في كل حكم نسبة الأحكام فيما بينها. وهذه النسبة الثانية تجعل من الاستدلال حركة متصلة من طرف إلى طرف، واتصالها يعطيها وحدتها، فإذا قلنا مثلا: «كل إنسان حجر، وكل حجر نبات، فإذن الإنسان نبات»، كنا مخطئين من حيث مادة الاستدلال. ولكنا نرى أن وضع المقدمتين يسوقنا سوقا إلى النتيجة، فالاستدلال فعل واحد مع تركيبه من عدة أفعال أو أحكام، لما بينها من ترابط وتبعية.
هذا التعريف للاستدلال بأنه تأليف معارف لأجل الاستنتاج، مرادف للتعريف الذي وضعه أرسطو وتنوقل بعده باطراد، وهو أن الاستدلال: «قول مؤلف من أقوال إذا ضعف لزم عنها بذاتها، ولا بالعرض، قول آخر غيرها اضطرارا.» وقد دعاه «سولوجسموس» أي الجامعة، لجمع النتيجة بين المعنيين اللذين لم نكن نعلم إن كانا يتوافقان أم يتخالفان، والتخالف كالتوافق جمع في مبنى القضية بين الموضوع والمحمول لكي نقول إنهما لا يتوافقان. ومن ثم دعا أرسطو جميع أنواع الاستدلال «سولوجسمي» مع عنايته بتبيان ماهية كل منها، وترجم اللفظ اليوناني إلى العربية بلفظ «قياس»، وأطلق كذلك على مختلف الاستدلالات؛ لأن الاستدلال كما عرفناه يقيس معنيين إلى ثالث، فحدث في العربية مثل ما حدث في اليونانية من اشتراك لفظ القياس بين الاستدلال عموما وبين نوع من أنواعه هو الذي نقصده ههنا، والذي يذكر في المنطق قبل الاستقراء والتمثيل وما إليهما.
صفحه نامشخص