ومن التفرقة الواضحة بين بواعث القانون وبواعث الأخلاق وبواعث الدين نعلم أن طبيعة القانون وطبيعة الأخلاق لا تغنيان عن طبيعة الاعتقاد، ولعل «العلوم الطبيعية» كما يسميها أبناء العصر صدقت أسماءها بظاهرة هامة في القرن العشرين، وهي «أن العقيدة طبيعية» في الإنسان، وأن خلوه من الاعتقاد هو الغريب.
بعد مليون سنة
في مليون السنة المقبلة - هو عنوان كتاب (The Next Million years)
ألفه السير شارل داروين العالم الطبيعي المشهور في العصر الحاضر.
وهو - بالبداهة - غير شارل داروين صاحب مذهب التطور، فهو حفيده وواحد من أسرة كبيرة كاد أفرادها جميعا أن يشتهروا بالعلم والثقافة ويبلغوا في دراساتهم الخاصة مبلغ الإمامة والرئاسة، ومنذ أيام جدهم الأكبر أراسموس داروين الذي نشأ في أوائل القرن الثامن عشر لم تخل الأسرة من عالم نابه يتخصص في علم من العلوم الطبيعية أو الرياضية، ويطرد هذا في أبناء العمومة من أسرة جالتون (Galton)
كما يطرد في أسرة داروين.
وهذه ملاحظة نقدمها في التمهيد لكتاب «المليون سنة» لأنها ترتبط ببعض مقترحاته لا لمجرد التعريف بصاحب الكتاب، وأهم هذه المقترحات أن يعمد المصلحون إلى الوسائل البيولوجية لترقية السلالة البشرية، فلا نظن أن المؤلف يقترح هذا المقترح إلا وقد قام لديه دليل الحس من أسرته نفسها على إمكان هذه الترقية البيولوجية وتطبيقها في الجماعات الكبيرة والآماد الطويلة.
يقرر داروين العصري أن الإنسان سيحتفظ بالعقيدة الدينية في المليون السنة المقبلة قياسا على المعهود من تاريخه القديم والحديث، وهو يتكلم عن العقيدة (Creed)
كأنها صفحة من الصفحات في تاريخ الديانة تستغرق نحو مائتي سنة، وتبقى الديانة العظمى مع تجدد العقائد فيها إلى أجلها المحتوم، لا يقدح في هذا التعميم أن العقائد عرضة للمخالفة في كل زمن، فتلك طبيعة في بعض الناس أن يخرجوا من الصف ولا يطيقوا الصبر على نظام القطيع.
قال: ولمحة أخرى من ملامح العقيدة يبدو أنها عامة في جميع العقائد، فقد يوجد في كل عقيدة نحو تسعة أعشار القوم يدينون بها بغير تصرف كأنها قانون من قوانين الطبيعة، وهم الذين يطلق عليهم اسم قطيع الضأن! ولكن يوجد معهم قلة يطلق عليهم اسم المعز مولعون بالخلاف ويعارضون كل شيء يجمع عليه من حولهم.
صفحه نامشخص