فلم يكن عصر من العصور مؤمنا كله ولا منكرا كله، ولا بد في كل عصر من مؤمنين ومنكرين، ولكنهم مع هذا يختلفون بين عصر وعصر في معنى الإيمان والإنكار وفي أسباب هذا وذاك، وفي الموضوع الذي يتناوله المؤمنون والمنكرون.
فليس القرن السابع عشر مثلا كالقرن العشرين، وليس القرن الثامن عشر كالقرن التاسع عشر، وليست القرون الحديثة كالقرون الوسطى أو القرون الأولى، وإن كان في كل منها إيمان وإنكار وشك ونفاق.
فإذا حسبنا لهذه المشابهات، أو هذه المفارقات، حسابها على جملتها، جاز أن يقال إن الحضارة الغربية تحولت منذ القرن السابع عشر من الشك في الدين، إلى الشك في العقل، إلى الشك في العلم الحديث، وإنها الآن تدخل في أبواب جديدة من الشكوك.
وربما كان الأصح أن يقال إن الحضارة الغربية بدأت بالشك في السلطة الدينية لا في الدين نفسه، وإن الدين الذي شكت فيه أو أنكرته كان هو الدين كما تشبث به الجامدون المتحجرون على التقاليد أو على العرف المقرر في عهود الجهل والطغيان.
وقد تزعزعت سلطة رجال الدين يوم تزعزعت كل سلطة، فشك الناس وأنكروا وثاروا على التقاليد وعلى العرف المحفوظ، ثم أذنوا لعقولهم أن تفكر وتقدر، واعتمدوا على العقل وحده في فهم جميع الأمور، وبخاصة ما كان فهمه مقصورا على دعوى ذوي السلطان من أصحاب الدنيا والدين.
انتقل ذوو الرأي من الإيمان بالدين إلى الإيمان بالعقل حتى انتهى بهم العقل عند حدوده، فتحولوا من الإيمان بالعقل إلى الإيمان بالعلم الحديث.
وليس الإيمان بالعقل والإيمان بالعلم شيئا واحدا كما يلوح من النظرة العاجلة؛ لأن الناس آمنوا بالعقل وحسبوا أنهم يفهمون به كل شيء من طريق المنطق والقياس، ومن طريق القضايا والبراهين ... فلما اختلطت عليهم الأمور وقصر بهم العقل دون العلم بالمحسوسات فضلا عن المغيبات - تحولوا إلى التجربة الحسية ووقفوا عليها جهود العلم الحديث، فلا علم بغير سند من الحس والتجريب.
فاليوم - في القرن العشرين - أين تسير الحضارة الغربية بين هذه الشكوك التي بدأت بالشك في الدين، ثم مضت أشواطا بعد أشواط تارة مع العقل وتارة مع العلم الحديث؟
ما هو الشك الذي يغلب على ذوي الرأي في القرن العشرين؟
نحسب أننا نجمل سمة القرن العشرين أصدق إجمال حين نقول إنها هي سمة الشك في الإنكار.
صفحه نامشخص